من القضاء المحجوز إلى القضاء المفوض: التطور التاريخي لنشأة القانون الإداري الفرنسي ودور مجلس الدولة فيه

نشأة القانون الإداري في فرنسا:

نشأ القانون الإداري في فرنسا، التي تعتبر مهد هذا الفرع من القانون في العصر الحديث، وامتد تأثيره إلى معظم دول العالم. لم يكن القانون الإداري بالمعنى الدقيق موجودًا قبل الثورة الفرنسية عام 1789، وقد تطور بشكل كبير بفضل جهود مجلس الدولة الفرنسي والفقه القانوني.

المراحل الرئيسية لنشأة وتطور القانون الإداري في فرنسا:

1. مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية (العهد الملكي):

  • كانت السلطات مركزة في يد الملك، وساد نظام الملكية المطلقة.
  • لم تكن الدولة تخضع للمساءلة أمام القضاء، وكانت تعاملاتها مع الأفراد تخضع للقانون المدني.
  • كانت هناك محاكم قضائية تسمى "البرلمانات" تمارس سلطة واسعة، وتتدخل في شؤون الإدارة، مما عرقل الإصلاحات.

2. بعد الثورة الفرنسية (1789 وما بعدها):

  • اعتنق رجال الثورة مبدأ الفصل بين السلطات، ومنعوا المحاكم القضائية من الفصل في المنازعات الإدارية للحفاظ على استقلال الإدارة تجاه السلطة القضائية.
  • ظهر مبدأ "الإدارة القاضية" أو "الوزير القاضي"، حيث كانت الإدارة هي التي تفصل في المنازعات المتعلقة بها.
  • في عام 1790، صدر قانون ينص على أن المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفًا فيها تُحال إلى الملك، بينما المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفًا فيها يختص بالفصل فيها حكام الأقاليم.

3. إنشاء مجلس الدولة الفرنسي (1799):

  • في عام 1799، أنشأ نابليون بونابرت مجلس الدولة (Conseil d'État) ومجالس الأقاليم، وكانت مهمتهم تقديم المشورة للإدارة، وإعداد مشروعات القوانين، والنظر في التظلمات.
  • في هذه المرحلة، كان مجلس الدولة يمارس ما يسمى بـ "القضاء المحجوز" (Justice Retenue)، حيث كان عمله يقتصر على فحص المنازعات الإدارية وتقديم مشروعات الأحكام، لكنه لم يكن يملك سلطة إصدار الأحكام النهائية. كانت الأحكام تتطلب تصديق رئيس الدولة.

4. مرحلة القضاء المفوض (من 1872):

  • شهد عام 1872 تحولًا جذريًا بصدور قانون منح مجلس الدولة الفرنسي صلاحية القضاء المفوض (Justice déléguée).
  • بموجب هذا القانون، أصبح مجلس الدولة يملك سلطة البت النهائي في المنازعات الإدارية، وأصبحت أحكامه نافذة باسم الشعب الفرنسي دون الحاجة لتصديق السلطة الإدارية.
  • في قضية "كادو" (Cadot) عام 1889، أكد مجلس الدولة اختصاصه العام في المنازعات الإدارية، وبدأ يصبح المصدر الرئيسي للقانون الإداري في فرنسا.

5. تطور القانون الإداري في القرن العشرين وما بعده:

  • شهد القانون الإداري توسعًا وتعمقًا مع تزايد التنظيم الإداري والوظائف الحكومية.
  • صدرت قوانين ومراسيم لتنظيم مختلف جوانب الإدارة، وتطورت وظيفة القضاء الإداري.
  • في عام 1987، صدر قانون يعيد تنظيم مجلس الدولة الفرنسي وينشئ المحاكم الإدارية الاستئنافية.

خلاصة:

باختصار، يمكن القول إن القانون الإداري في فرنسا نشأ نتيجة للحاجة إلى رقابة قضائية على أعمال الإدارة بعد الثورة الفرنسية، وتطور ليصبح نظامًا قضائيًا مستقلاً ومتخصصًا، كان لمجلس الدولة الفرنسي دور محوري في بنائه وتطوير مبادئه.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال