التكرار في الشعر.. تحقيق وظيفة إيقاعية دلالية بواسطة التشاكل الصوتي بالنظر إلى التحليل المعرفي



إن ظواهر التكرار التي لا يؤطرها مصطلح "الجناس" بالمعنى التقليدي، يعيد تقديرها "التشاكل"، كما هو بين في تحليل المثال الموالي.
يقول الجرجاني: " (...) أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله:
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت
فيه الظنون: أمَـذهَـبٌ أم مُـذهَـب
واستحسنت تجنيس القائل:
" حتى نجا من خوفه وما نجا " وقول المحدث:
ناظراه فيما جنى ناظراه    أودعاني أمت بما أودعاني
لأمر يرجع إلى اللفظ ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأول وقويت في الثاني؟ ورأيتك لم يزدك بمذهب  ومُـذهب على أن أسمعك حروفا مكررة، تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها، فبهذه السريرة صار التجنيس - وخصوصا المستوفى منه المتفق في الصورة - من حلى الشعر ومذكورا في أقسام البديع".
يحقق التكرار في بيت أبي تمام، الذي استضعفه الجرجاني، وظيفة إيقاعية-دلالية بواسطة التشاكل الصوتي.
فقد لعب الشاعر بالنواة: ذهب، إذ راكم الوحدات؛ ذهبت مَـذْهَـب ومُـذهَـب.
وهذا ما ترتب عنه تشاكل صوتي وتباين دلالي. وذلك بالنظر إلى المستوى التركيبي لهذه الوحدات؛ الفعل، الجار والمجرور.... ثم بناء على تعددها المعنوي باعتبارها وحدات دلالية (Sémèmes). ذلك أن 'مـَـذْهـب' تؤشر على 'المعتقد' الذي يُـذهب إليه. أما 'مُـذهَـب'، فتحيل على 'التمويه' و 'الزيف': (وكل ما موه بالذهب فقد أُذهـب، وهو مُـذْهَـب، والفاعل مُـذهِـب. والإذهاب والتذهيب واحد، وهو التمويه بالذهب).
وتتشاكل ' مُـذهِـب '، بهذا المعنى، مع الوحدة ' المُـذهِـب '؛ إسم شيطان، باعتبارها وحدة دلالية خفية أو مضمرة . ويقوم التشاكل بينهما على أساس المقوم المشترك: [+ خداع] أو [+ تمويه]، في مقابل المقوم [+ اعتقاد راسخ] الذي تحتويه الوحدة الدلالية ' مَـذهب'.
وهكذا، فالتعدد المعنوي للوحدات الدلالية السابقة، يتحدد كذلك بالنظر إلى التحليل المعرفي، انطلاقا من اعتبار "مَـذهب"،  تحويلا للمجال الفضائي (الذهاب)، وهو المجال- الأصل (أو الشاهد الأمثل)، إلى المجال - الهدف؛ الفضاء الذهني ( الاعتقادي - الأخلاقي). أما الوحدة الدلالية "مُـذهَـب" فإن مجالها الأصلي هو الاشتغال بأشياء في الفضاء (الذهب)، بينما مجالها - الهدف يحيل على الزيف والخداع بوصفهما فضاءين ذهنيين كذلك.   
ومن هنا، نجح أبو تمام في وضع دلالة البيت الشعري ضمن مقصدية المدح بواسطة المبالغة وضمن مستويات متعددة لثنائية: التشاكل / اللاتشاكل، نوضحها كما يلي:
التشاكل
اللاتشاكل

م. الصوتي
- تراكم أصوات  > ذ، هــ، ب، م.. <
- إضافة النون، مثلا، وحذف التاء...
م. التركيبي
- تراكم الفعل الماضي: [ذهبت، التوت.]
- تراكم الفاعل: [السماحة ، الظنون]
- التقابل التركيبي: - التنكير (مذهب)،    والتعريف (السماحة....)
م. الدلالي
- مُـذهَب، المُـذهب: [+ تمويه] و[+ شيطان]...
- مَـذهب، مُـذهَب: تحويل من المجال الفضائي إلى المجال الاعتقادي.
- مَـذْهَـب: [+ اعتقاد راسخ]،
- مُذهَب: [+ خداع]، [+ تمويه].