الديمقراطية نصف المباشرة.. انحلال أو إنهيار مبدأ الإجماع أو الأكثرية يقضي على مفهوم التمثيل نفسه

أما الصخرة الثانية التي ستبنى عليها هندسة سياسة الغد، فإنها تبدأ بالديمقراطية نصف المباشرة، حيث نقوم نحن مقام ممثلينا. وكما رأينا، فإن انحلال أو إنهيار مبدأ الإجماع أو الأكثرية، يقضي على مفهوم التمثيل نفسه، وعندما يختلف الناخبون فيما بينهم، فمن هو الجزء الذي يمثل الشعب حقاً؟

ومن جهة أخرى، فإن المشرّعين انتهوا من هذا إلى استدعاء الدعم اللوجيستيكي (أو المشورة) لمجموعة داخلية، وأحياناً إلى خبراء من الخارج ينضافون إليها.

ومن الواضح جداً أن النواب البريطانيين يظلون في موقف ضعيف أمام بيروقراطية الوايتهول Whitehall  لعدم وجود تنظيم ملائم، وهذا مما يؤدي إلى نقل السلطة من البرلمان إلى موظفين غير منتجين.

وعندما حاول الكونغرس، في الولايات المتحدة، أن يقيم توازناً بين تأثير البيروقراطية التابعة للسلطة التنفيذية وبينه، أقام هو بيروقراطيته الخاصة به، وهكذا أنشأ دائرة للموازنة، وأخرى للدراسات التكنولوجية، وأضاف إليها وكالات ودوائر تابعة له، لا يستغني عنها. ولكن هذا لم يعد بطائل غير نقل المشكلة من خارج جدرانه إلى داخلها.

وهكذا فإن ممثلي الشعب المنتخبين، قلّما يحيطون علماً بجملة التدابير التي يجب أن يحدّدوا منها موقفهم، وهم مرغمون دوماً على الاعتماد أكثر فأكثر على أحكام الآخرين. إن الممثل لم يعد يمثل شيئاً، حتى ولا نفسه.

وكانت البرلمانات، والكونغرس، والجمعيات الوطنية، في الأصل، مجالات، تملك نظرياً أن تؤلف بين وجهات نظر متضادة. وكان ممثلو وجهات النظر هذه يستطيعون التفاوض للوصول إلى مصالحة ما.

غير أنه ليس من برلمان، ذي أدوات عرجاء، ومبتذلة، كالتي ذكرناها، يستطيع أن يعرف مطالب الكثرة الهائلة للجماعات الصغيرة، على كونه كما يقال، يمثلها، حتى ولا أن يكون وسيطاً أو "سمساراً".

وكلما ازدادت الأعباء على الكونغرس الأمريكي والبوندستاغ الألماني، أو الستورتينج النروجي، ازداد الوضع سوءاً.
والآن نحن نفهم بصورة أفضل ذلك العناد الذي أظهرته المجموعات الضاغطة.

ولما كانت إمكانية المساومة أو الوصول إلى حدً وسط، محدودة في إطار المؤسّسة البرلمانية، فإن مقتضيات أو مطالب الفئات المتخاصمة تصبح شبه انذارات لا مفاوضة فيها. وهكذا فإن الحكومة التمثيلة، بوصفها وسيطة نهائية، تنهار هي أيضاً.

إن تفجر بنى المفاوضة، والاحتكاك بين مراكز القرار، والشلل المتصاعد الذي يصيب الهيئات التمثيلية، أمور ربما كان من نتائجها أن الكثير من القرارات المتخذة اليوم، سترّد بالتدريج إلى الناخبين أنفسهم. وعندما يستطيع الوسطاء الذين هم نوابنا أن يفاوضوا بالنيابة عنا، نتساءل لِمَ لانتفاوض نحن بدلاً منهم.

ولئن كانت القوانين التي يسنونها غريبة عن حاجاتنا، أولاً تحسن تقدير هذه الحاجات، فلا أقل إذن من أن نضع، نحن أنفسنا، هذه القوانين التي نحتاج إليها. إلا أن ذلك يوجب علينا أن نملك مؤسسات تقانات جديدة.

وهؤلاء ثوريو الموجة الثانية الذين ابتكروا أو ابتدعوا آلية المؤسسات الحالية، لم يكونوا يجهلون الطرف الاخر من المعادلة  أي تلك الديمقراطية المباشرة.

وكذلك فإن الآباء المؤسسين لم يكونوا يجهلون شيئاً، من النظام البلدي، أو الموافقة الشعبية، على المستوى الصغير، الموجود في انجلترا الجديدة، غير أن نقاط الضعف في الديمقراطية المباشرة، وحددوها، كانت بارزة أيضاً -وفي ذلك العهد، كانت محازيرها أكبر وزناً من حسناتها.

"وكان الفيديرالي يثير اعتراضين أمام هذا التجديد" تبعاً للسيد  Mc Cauley والسيد Rood وجونسون Johnson وهم أصحاب الاقتراح الذي يدعو إلى الاستفتاء العام في الولايات المتحدة.

وأول ما يقال، هو أن الديمقراطية المباشرة لم تكن تسمح لا بضبط ولا بتأخير ردود الفعل العاطفية المؤقتة، لدى الجماهير- والحجة الثانية، هي أن المواصلات في ذلك العهد، لم تكن قادرة على ضمان عملها (عمل الاقتراع).

ولاشك أن لدينا هنا مشكلات مشروعة. فلو أن الشعب دُعيَ لإبداء الرأي، من أواسط العام 1960 في إمكانية إلقاء قنبلة نووية على هانوي، ترى كيف نتصور أن الرأي العام الأمريكي المغبون الملتهب سيصوت؟

وكيف كان يمكن أن يرد ألمان الغرب المتميزون غيظاً على عصابة Baades meinhof على الاقتراح القائل بسجن المتعاطفين مع إرهابييّ المعسكرات؟

وماذا كان يمكن أن يجري لو وجد هناك استفتاء شعبي حول كيبك، بعد ثمانية أيام على وصول رينيه ليفسك Rene Levesque  إلى السلطة؟ إن الممثلين المختارين يقدر أنهم من الذين يظن بهم الخير، وقلة الاندفاع مع العواطف، والإصغاء إلى ما يقوله العقل أكثر من الآخرين.

ومع ذلك فإن لدينا وسائل مختلفة نستطيع بها السيطرة على ما لدى الجمهور من شدة التأثر بالعاطفة- مثال ذلك، فرض فترة للتفكير في الأمر المطروح، أو إعادة الاستفتاء (أو الانتخابات) بعد تطبيق القرارات الهامة المتبناة بالاستفتاء، أو أي صورة أخرى للديمقراطية المباشرة؟

وكذلك فإن من الممكن دحض الاعتراض الثاني. والحقيقة، أن ضيق وسائل الاتصال القديمة، لم تعد تشكل عقبة أمام انتشار الديمقراطية المباشرة. ذلك أن التقدم المدهش في تقانة الاتصالات تفتح لأول مرة شبكة خارقة للعادة من وسائل المشاركة المباشرة للمواطنين، في القرار السياسي.

ولقد سُررنا منذ مدة بسيرة عندما شهدنا حادثاً تاريخياً يؤلف سابقة عالمية: إذ لقد شهدنا وسمعنا نقاشاً بلدياً (في المجلس البلدي) تلفزيونياً. فبفضل التلفزيون، والاتصال الممكن بين الناس عن طريقه، بعد أن جرّبه Qube (كوب) إذ استطاع سكان ضاحية من ضواحي Colombus  في أوهايو أن يشاركوا حقاً في أعمال لجنتهم في الخطة plan.

وكان يكفيهم من غير أن يتركوا أو يتخلوا عن أعمالهم الطبيعية، أن يضغطوا على زر معيّن، لكي يعبروا آنياً أو فوراً عن رأيهم في أمور من طبيعة سياسية، كالتهيئة المدنية، ووضع نظام للمساكن، أو العقارات أو وضع مشروع بناء أوتوستراد.

ولم يكونوا قادرين على التصويب بـ "نعم" أو "لا" ولكنهم كانوا يستطيعون التدخل في النقاش أيضاً، وأن يعربوا عن وجهة نظرهم.
وفي وسعهم أيضاً بالضغط على زر آخر، أن يقولوا للرئيس، أن ينتقل إلى نقطة أخرى من نقاط البحث.

وليس هذا إلا العلامة الأولى، والأكثر بدائية، على بداية الديمقراطية المباشرة الموعود بها للغد. ولأول مرة في التاريخ تستطيع  هيئة انتخابية مطلقة، أن تتخذ قراراتها، بفضل الحاسوب، والقمر الصناعي، والهاتف، ثم التلفزيون Par Cable.
وكذلك بتقنيات سبر الرأي، وأدوات متقدمة أخرى غير هذه.

وليست القضية أن نحل نظاماً محل نظام آخر، ولا أن نخلق بلديات الكترونية، على نحو ما تصوره  Ross perotبشكل موجز. بل إن سيرورات ديمقراطية أكثر حساسية وأرهف، أصبحت ممكنة، وكذلك ليست القضية أن نختار بين الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية اللامباشرة، أو بين التمثيل الذاتي، أو التمثيل عن طريق تفويض الآخرين بالسلطة. بل إن في وسعنا أن نتخيل الكثير من الأشكال التي تؤلف بين الديمقراطية المباشرة، والديمقراطية اللامباشرة.

وفي أيامنا هذه، سواء أكنا في الكونغرس أم في أكثر البرلمانات أو الجمعيات، نجد أن النواب ينشئون لجانهم الخاصة، من غير أن يكون للمواطنين أية وسيلة لإرغام المشرعين على إنشاء لجنة ما، أو جملة لجانٍ تدرسُ مشكلةً مهملة، أو مشكلة يطول فيها أو طال الجدل.

ولكن نتساءل: لم لا يكون للناخبين القدرة بعد تقديم طلب ما على إرغام الجمعية الوطنية، على إنشاء لجنة لدراسة مشكلةٍ، يرى الجمهور -خلافاً للمشرع- أنها مسألة هامة؟

ولا يعني هذا كله أننا نمتدحُ هذه الآراء الخيالية، لأننا سلفاً نقرّ بها ونحرص عليها، بل نحن نريد فقط أن نلحّ على فكرة من نظام أكثر شمولاً: إن هناك وسائل ناجحة لإدخال الديمقراطية على نظام يقتَّرب من نهايته، في إطار لا نجد فيه إلا قليلاً من الناس- هذا إن افترضنا أن مثل هذا العدد موجود -يشعرون بأنهم ممثَّلون فعلاً.

ولكن يجب علينا أن نتخلى عن عاداتنا العقلية القديمة، ونهمل ماضياً صار عمره ثلاثة قرون. ذلك أننا لم نعد نستطيع حل المشكلات التي نعانيها بالاعتماد على الأيديولوجيات، أو على بقايا بنى ورثناها من الموجة الثانية.

ولكن يجب أيضاً أن نمتحن مثل هذه المقترحات ذات المقتضيات اللامؤكدة، على الأرض، وعلى مقياس صغير، من قبل أن نوسع مجال التطبيق. ولكن مهما يكن رأينا في مثل هذه الأفكار، فإن الاعتراضات القديمة، التي كانت تقف في وجه الديمقراطية المباشرة تضعف، وذلك في اللحظات التي تتعزز فيها الاعتراضات التي تثار في وجه الديمقراطية التمثيلية.

ومهما يكن خطر الديمقراطية نصف المباشرة التي ندعو إليها، ومهما تكن، في عيون بعض الناس، فإنه يبقى أن ما ندعو إليه، هو مبدأ معتدل يمكن أن يساعدنا على اقتراح مؤسسات جديدة قابلة للتطبيق.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال