تقسيم القرار.. المؤسسات الحكومية لا بد لها من أن تنسجم مع بنية الاقتصاد ونظام الإعلام والاعتبارات الأخرى الناشئة عن حضارة الزمن الذي تعمل فيه

إن زيادة فتح أبواب السلطة للأقليات، وإتاحة الفرصة للمواطنين للتدخل بشكل أوسع في حكومتهم، هما قضيتان ضروريتان بدرجة واحدة، ولكن هذا لا يكفي. وعلى هذا فإن المبدأ الحيوي الثالث، في سياسة الغد يتجه إلى كسر القفل على القرار، ونقله إلى حيث ينبغي نقله- وهذا -وليس فقط تغيير القادة- هو النقيض للشكل السياسي. وهناك دواء نسميه بـ: بتقسيم القرار".

هناك مشكلات لا يمكن أن تسوّي على المستوى المحلي. وهنالك مشكلات أخرى لا يمكن تسويتها، على المستوى الوطني. وبعضها يقتضي عملاً متوازياً ومتواقتاً على مستويات مختلفة. وعدا ذلك، فإن المكان الملائم لتسوية مشكلة ما. ليس ثابتاً بل إنه يتغير مع الزمن.

فإذا أردنا أن ننهي عهد محاصرة القرارات، الذي هو نتيجة إرهاق المؤسسات بالعمل، فإن من المهمّ آنئذ أن نجزّئ القرارات. ونعيد توزيعها- وتقسيمها بشكل أوسع، وتحديد المكان الذي يتخذ فيه القرار، طبقاً لنوعية المشكلات.

ولنقل إن الجهاز السياسي الحالي متناقض تناقضاً فعلياً مع هذا المبدأ: إذ أن المشكلات قد تغيّرت، ولكن سلطة اتخاذ القرار لم تتغير. وهكذا نرى مثلاً أن كثيراً من القرارات ما يزال يخضع للمركزية، على حين أن هندسة المؤسسات أُنضجت أمثلَ الانضاج، على المستوى الوطني.

وبالمقابل فإنه لا يوجد ما يكفي من القرارات على المستوى المحلي، وكل البنى الموجودة في هذا الميدان، ما تزال متخلفة جذرياً.

وكل هذا من غير أن نشير إلى أن لدينا قليلاً جداً من القرارات، المتروكة على المستوى التحت الوطني أي المناطق والدول، والمحافظات والجماعات المحلية، أو التجمعات الاجتماعية، الخالية من الاقتصاد الجغرافي.

ونحن، على المستوى العالمي، بدائيون، ومتخلفون ولانزال في هذا الموضوع كما كنا منذ 300عام. ولئن وُجد عدد من القررات، ينتقل إلى الدرجة الأعلى، خارج الدولة، فإننا سنكون قادرين على التدخل، بدرجة أكبر من النجاح، في هذا المستوى الذي هو مهد الاختيار (أو التعرض) للمشكلات المهددة بالانفجار، والمرشحة لمواجهتنا نحن.

وبحكم ذلك، سيجد مركز القرار أنه مثقل بالأعباء، أعني أن الدولة -الأمة، ستخفف من عبئها بعض الشيء. إن تقسيم (تقاسم) القرار، شيء أساسي. ومهما يكن من أمر، فإننا لن نكون قد قطعنا إلا نصف الطريق، وبديهي أن من الأهمية بمكان أن "نُنزل" جزءاً كبيراً من مراكز القرار، أو أن نهبط بمستواه.

غير أننا هنا نجد المبدأ القائل: "إما الكل وإما لا شيء"، لا يعمل أو لا يستقيم. فالقضية ليست في معارضة المركزية باللامركزية، بالمعنى المطلق، إذ أن المشكلة المطروحة هي إعادة تأطير آلية القرار داخل نظام تضخمت فيه المركزية تضخماً كبيراً، حتى لنجد أن سبل الإعلامات يخنق مراكز القرار.

وبطبيعة الحال فإن حذف أو تخفيف المركزية، ليس بضمان لوجود الديمقراطية. ذلك أن إمكانية بروز بعض الاستبدادات الصغيرة والعديمة الشفقة، ليست محذوفة، كثيراً ما تكون السياسه المحلية أكثر فساداً من السياسة الوطنية.

وهذا من غير أن نقول: إن ذاك الذي يوهمك بأنه "لا مركزية" ليس في الحقيقة إلا نوعاً من التزييف لهذه اللامركزية، أما المستفيدون منها، فسيكونون من هواة المركزية.

ومع ذلك، يستطيع الإنسان أن يناقش بقدر ما يريد، إلا أنه لا يمكن أن يتم اعادة الحس السليم والنظام والنجاح في الإدارة -ويصح هذا على الكثيرين من الدول- إلا بنقل جوهري للسلطة المركزية. ويجب وجوباً مطلقاً تجزئة عبء القرار، وجعلها إلى حدّ كبير في يد السلطات الدنيا.

لا بدعوى أن بعض الفوضويين الرومانطيقيين، يريدون أن نعود إلى ديمقراطية القرية او أن بعض كبار المكلفين بالضرائب والمستائين من ذلك يطالبون باقتطاعات كبيرة من المخصصات الموضوعة للمساعدات الاجتماعية (الخاصة بالمعوزين)، بل لسبب أبسط بكثير من هذا: فالبنية السياسية حتى ولو جهزت بمجموعة من الحواسيب، لا تستطيع أن تستوعب إلا جزءاً معيناً من القرارات، من نوعية معينة، ولكن الحكومات- بحكم كثرة واجبات القرار- قد تجاوزت نقطة اللاعودة.

وشيء آخر أيضاً هو أن المؤسسات الحكومية لا بُدّ لها من أن تنسجم مع بنية الاقتصاد، ونظام الإعلام، والاعتبارات الأخرى الناشئة عن حضارة الزمن الذي تعمل فيه.ذلك أننا تشهد اليوم تناثر المركزية، والتجزؤ المحلي للإنتاج والنشاط الاقتصادي. والحقيقة أن من الممكن جداً ألا يكون الاقتصاد الوطني وحدة هو القاعدة.

وعلى نحو ما لاحظنا سابقاً فإننا نشهد داخل الاقتصادات الوطنية، بروز اقتصادات جزئية في المناطق، تزداد أهميتها. وعندئذ نرى الشركات لاتبذل جهداً من أجل القيام بتجزئة داخلية فقط، بل إنها أيضاً تقوم بتجزئة مركزيتها تبعاً للمناطق الموجودة فعلاً.

وينشأ هذا كله، جزئياً، عن التحول الضخم في سييل المعلومات التي تسقي المجتمع. ومع ضعف التشعب المركزي نشهد، على ما لاحظنا من قبل- تفكك المركزية الأساسية للاتصالات، إننا نشهد تكاثراً مريعاً في عدد التلفزيونات ذات الكابلات، والحواسيب وأنظمة التواصل الالكترونية الخاصة، التي تمضي كلها في اتجاه اللامركزية.

وليس في الإمكان أن تقوم شركة ما، بنثر النشاط الاقتصادي، والاتصالات، والكثير من طرائق العمل الأساسية، من دون أن ترى نفسها، ذات يوم، مرغمة أيضاً على نثر القرار (أي نثر القرار بين فروع الشركة).

إن هذا كله ليقتضي شيئاً آخر غير مجرد ارتقاء المؤسسات السياسية، كما يقتضي معارك عنيفة، هدفها هو الرقابة على الموازنات والضرائب، والأرض، والطاقة، والمصادر الأخرى. إن نثر أو تناثر مراكز القرار لن يكون مطلباً سهل الانتزاع،ولكنه شيء لا بد منه، أو محتوم في البلاد المشبعة جداً بالمركزية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال