لكي نفهم ماهية الديمقراطية لا بدّ من الاعتراف بأن مفهوم عبء القرار ذو أهمية كبيرة. إن شيئاً من الكم وشيئاً من الكيف في القرارات السياسية، أمرٌ لا بد منه لعمل كل المجتمعات. والحقيقة أن لكل واحدة من هذه، بنية خاصة لاتخاذ القرار.
وكلما ازدادت القرارات عدداً، وتنوعت، وتعقدت، ازداد عبء القرار السياسي: ثم إن الطريقة التي يُوزّعُ بها هذا العبء لتؤثر بصورة أساسية في مستوى المجتمع الذي ينظر إليه.
وفي المجتمعات السابقة للصناعة، حيث يكون تنوع العمل ضئيلاً، والتغيرّ قليلاً، كانت كمية القرارات السياسية أو الادارية المطلوبة فعلاً، لتشغيل مكنة العمل، ضئيلة. وكان عبء القرار قليلاً. وكانت نخبة محدودة جداً نصف مثقفة وغير مختصة، قادرة على تشغيل المكنة، دون عون من أصحاب الدرجات الدنيا. وكانت وحدها تحمل عبء القرار كله.
أما ما نسمِّيه اليوم ديمقراطية، فإنه لم يظهر إلا في اللحظة التي كان فيها عبء القرار، يتخذ أهمية ضخمة، لم يكن في وسع النخبة القديمة أن تحمله.. وعندما ظهرت الموجة الثانية، حاملة معها، اتساع السوق، وتقسيماً أكبر للعمل، وانتقالاً إلى مستوى أرقى من التعقيد الاجتماعي، أثارت، في زمانها، حادثة انبثاق للقرار، شبيهة بتلك التي تسبب انفجار الموجة الثالثة، اليوم.
وكانت كفاءة اتخاذ القرار لدى الفئات القيادية تجد أن ظروف الحياة الجديدة قد تجاوزتها.
وكان يجب أن تُختار نُخبٌ ذات كفاءة عالية ونخب دونها بقليل، كعناصر مساعدة لمجابهة الشروط الجديدة.وإنشاء معاهد ومؤسسات سياسية ثورية وغير معهودة لتهيئة الكفاءات المطلوبة.
وعندما لوحظ تنامي المجتمع الصناعي، وازداد تعقيداً اضطر" تقنيو السلطة" بدورهم، للبحث باستمرار عن دم جديد لمساعدتهم في حمل العبء، عبء اتخاذ القرار الذي يظل متضخماً.
وهذه السيرورة، اللامرئية، على كونها محتومة، هي التي أدخلت في صفوفها، تلك الطبقة الوسطى في الحياة السياسية، بأعداد متراصة باستمرار، وهذه الحاجة الماسة إلى اتخاذ القرارات هي التي أدت إلى اتساع دائرة الحصانات، وإفساح المجال، بصورة متزايدة، لدخول أناس جدد من الطبقة الأدنى.
وحتى إذا لم يكن هذا الوصف إلا تقريبياً، أو غير دقيق كل الدقة، فإنه يبرهن على أن تنامي الديمقراطية متعلق بالثقافة، ويتجابه الطبقات العزيز على الماركسيين، والشجاعة في المعركة" وحسن الخطابة، والإرادة السياسية، بأقل مما يتعلق بتضخم عبء القرار الذي يقع على عاتق كل المجتمعات.
وعندما يصبح هذا العبء مفرط الثقل، يجب حتماً أن يجد من يقوم به، بتوزيعه على أعداد أكبر، عن طريق المشاركة الديمقراطية.. وعلى ذلك فإنه عندما يتمدّد عبء القرار الذي يتحمله النظام الاجتماعي، تصبح الديمقراطية ضرورة من ضرورات التطور، وليست مجال اختيار حر. ذلك أن النظام لا يقوم إلا بها.
وهذا كلّه يحملنا على التفكير، من جهة أخرى، على أننا ربما كنا على عتبة القيام بقفزة كبيرة في ميدان الديمقراطية.
ذلك أن الحاجة نفسها إلى القرار. -التي تشل رؤساءنا، ورؤساء وزرائنا، وحكوماتنا- هي التي تفتح لنا الطريق، لأول مرة منذ بداية الثورة الصناعية - إلى توسّع ضخم وأساسي في المشاركة السياسية.
ثم إن الحاجة إلى خلق مؤسّسات أو معاهد سياسية تتلازم والحاجة التي نشعر بها، إلى مؤسّسات عائلية تربوية واقتصادية، متصلة اتصالاً وثيقاً بالبحث عن قاعدة شديدة العزم. وهي تعكس الانقلاب الذي يؤثر أو يتناول مجال الاتصالات.
وهذا الاقتضاء، أي إعادة النظر في بنى العلاقات التي نقيمها مع العالم اللاصناعي، أو قل إنه، جملة مترجمة، على المستوى السياسي للتحولات المتسارعة التي تتدخل في مختلف هذه الدوائر.
وإذا نحن لم نر هذه الترابطات، لم نفهم شيئاً من الأخبار التي تملأ صفحات الجرائد. وليس التجابه السياسي الكبير، اليوم، هو الصراع الذي يقوم بين الأغنياء، والفقراء، والجماعات العرقية التي تتصدر الناس في كل مكان، وبين تلك التي حُرم عليها كل شيء، ولا بين الرأسمالية والشيوعية، بل يعني أن المعركة الحاسمة هي تلك التي تقوم بين من يحاولون إنقاذ المجتمع الصناعي، وبين أولئك المستعدين سلفاً، لتجاوزه.. إن هذه المعركة هي أم معارك الغد.
التسميات
موجة ثالثة