أما المبدأ الأول - وهو مبدأ مخالف للمألوف -في حكم الموجة الثالثة، فإنه مبدأ سلطان الأقليات.
وخلاصته هي أن الحكم الخاضع لنظام الأكثرية وهو نظام أساسي في العهد الصناعي -يتزايد تهافتاً على مرّ الأيام.
وليست الأكثرية بالأمر المهم، بل الأقلية هي الشيء المهم، وعلى نظم الحكم السياسية أن تترجم هذا الواقع.
كان جيفرسون مرة أخرى - وهو الذي يعبّر عن رغبات الجيل الثوري - يؤكّد أن على الحكومات أن تنقاد كل الانقياد لقرارات الأكثرية.
وكانت الولايات المتحدة وأوروبا في بداية عهد الموجة الثانية، تبدأ عندئذ تلك المسيرة الطويلة التي كان عليها أن تحوّلها إلى مجتمعات صناعية جماهيرية. وكان مفهوم الأكثرية يناسب حاجات مثل هذه المجتمعات.
وما ديمقراطيتنا الجماهيرية الحالية إلا التعبير السياسي عن إنتاج واستهلاك وتربية للجمهور وللإعلام الجماهيري وللمجتمع الجماهيري.
ولكننا رأينا أننا نخرج اليوم من العهد الصناعي. وأن المجتمع يتناثر بسرعة. وفي مثل هذه الشروط يكون من الصعب أكثر فأكثر -إذا لم نقل مستحيلاً- أن نجمع أكثرية أو حتى تحالفاً حكومياً.
ولهذا فإن هولندا وإيطاليا بقيتا أحياناً ستة أشهر (لهولندا) أو خمسة (لايطاليا) من دون حكومة.
ويعلن الاستاذ في العلوم السياسية WALTER Dean BURNHAM ويترديمن برنهام من الماساشوسيت أو لتقل من معهد ماسوشوسيت للتكنولوجيا "إنني لا أرى اليوم من أساس لأكثرية حقيقية حول أية قضية".
وبدلاً من مجتمع قوي التراتب، تتحالف فيه جماعات كبرى لتأليف الأكثرية، سيكون لدينا مجتمع خليط من العناصر، توجد فيه آلاف من الأقليات، الكثير منها في وضع لا يستقر على حال، فتراهم يدورون ويتخابطون بغية خلق تراكيب موقنة، قلّما يبلغ تآلفها حدود الـ 51% حول المشكلات الكبرى.
وهكذا فإن انبثاق حضارة الموجة الثالثة، يُضعف أو يقلل من مشروعية الحكومات.
وكذلك فإن هذا الانبثاق يضع موضع البحث مسلماتنا التقليدية المتصلة بعلاقة "القاعدة" (أي قاعدة الأكثرية) بالعدالة الاجتماعية. وأثناء أو طيلة عهد الحضارة الزراعية (الموجة الأولى) ظلت المعركة حول انتصار قاعدة الأكثرية إنسانية وتحريرية.
ويمكن أن نقول مثل هذا عن البلاد التي تمضي إلى التصنيع، مثل جنوب افريقيا.
ولقد كانت قاعدة الأكثرية، في عهد الموجة الثانية، شبه مرادفة للانتصار، بالنسبة للفقراء، لأن هؤلاء كانوا يشكلون الأكثرية.
أما اليوم، وفي البلاد التي تعصف بها ثورة الموجة الثالثة، فإن العكس هو الصحيح،. ذلك أن الفقراء حقاً لم يعودوا يشكلون الأكثرية بالضرورة.
وقد أصبحوا في عدد لا بأس به من الأمم- تماماً كبقية الناس، أقلية بين الأقليات.
وعلى ذلك يمكن القول: إن قاعدة الأكثرية لم تعد معياراً للمشروعية المتوازنة، ولكنها أيضاً -وبالإضافة إلى ذلك- ليست حتماً إنسانية أو ديمقراطية في المجتمعات الماضية إلى حضارة الموجة الثالثة.
ومن عادة أيديولوجيي الموجة الثانية أن يأسفوا على انهيار المجتمع الجماهيري. وبدلاً من النظر إلى التنوع الغني الذي ينشأ عن ذلك، كما لو أنه الأرض الخصبة للتقدم الإنساني، نراهم يدينونه، من حيث أنه تجزؤ أو "بلقنة" ويجعلونه مسؤولاً عن أنانية الأقليات.
لكن هذا التفسير العامي، ينظر إلى الأثر، كما لو أنه السبب. ذلك أن العدوان المتزايد للأقليات لا ينشأ، فعلاً، عن نموّ مفاجئ للأنانية، بل هو انعكاس -بين أشياء أخرى- لمقتضيات ذاتية للطريقة الجديدة في الإنتاج، التي يقتضي وجودها مجتمعات أكثر تنوعاً وألواناً، وأعظم انفتاحاً، واختلافاً، من كل المجتمعات التي عرفها الناس في الماضي.
وفي وسعنا إما أن نقاوم هذا التنوع بمعركة كبيرة من رجال المؤخرة، إنقاذاً لمؤسسات الموجة الثانية وإما أن نعترف بالتنوع، وتغيير المؤسسات تبعاً له.
ولا يمكن أن نطبق الاستراتيجية الأولى، إلا بالاعتماد على طرائق جماعية، وهي تؤدي بالضرورة إلى ركود اقتصادي وثقافي
أما الطريقة الثانية، فإنها تطل على التطور الاجتماعي، كما تطل على ديمقراطية القرن الواحد والعشرين القائم على مبدأ الأقليات.
وطمعاً بإعادة بناء الديمقراطية كما ينبغي للموجة الثالثة، يكون علينا، في هذه الحال، أن نلوي عنق العقيدة المخيفة- على كونها خاطئة- التي ترى أن التنوع المتزايد يزيد، آلياً، خطورة الصراعات داخل المجتمع.
والواقع أن العقيدة المعاكسة يمكن أن تكون معقولة ومقبولة كالأولى. ذلك أن الصراع ليس ضرورياً للمجتمع فقط: بل هو أيضاً، مطلوب ومُتَمنّى في بعض الحدود. فإن أراد مئة شخص ليس لديهم ما يفقدونه أن يتملكوا الشيء نفسه، فإنهم سيتضاربون بالأيدي.
وبالمقابل إذا كان لكل واحد منهم هدف مختلف، فإنه سيكون من الأجدر لهم أن يتفاوضوا وأن ينشئوا علاقات تكافلية، فإذا نحن قمنا ببعض الاصلاحات المناسبة، وجدنا في التنوّع ضماناً لحضارة مريحة وثابتة.
وفي رأينا أن غياب المؤسسات السياسية المناسبة هو الذي يثير الأقليات وتدفعها، حتى إلى العنف، هو المسؤول عن عنادها وتطرفها. وهو الذي يجعل الأكثريات تفقد أكثر فأكثر.
ولن نحل هذه المشكلات، بزيادة التناقضات، ولا باتهام الأقليات بالأنانية (كما لو أن النخب والخبراء الذين يقومون بخدمة الأكثرية لا تبتغون إرواء المصالح الشخصية).
والحل هو إنشاء إجراءات خلاقة ودينامية، تأخذ التنوع بعين الاعتبار، وتجعله مشروعاً وتُحدث مؤسسات جديدة قادرة على الاستجابة.
ولعل مؤرخي الغد، يجدون في التصويت والبحث عن أكثرية، مراسم بالية أنشأها بدائيون يشكون من نقص التواصل فيما بينهم. غير أنه لا يسعنا في العالم الخطير الذي هو اليوم عالمنا، أن نسمح لأنفسنا بتفويض السلطة إلى أي إنسان، بل ولا أن نستغني عن التأثير المتواضع الذي يملكه الشعب، في الأنظمة التي تسود فيها قاعدة الأكثرية، ولا يمكن أن ندع الأقليات تتخذ تدابير ذات عواقب خطيرة تثير عليها أقليات أخرى.
ولهذا يجب علينا أن نعيد النظر، من البداية إلى النهاية ومن تحت إلى فوق، في تلك الطرائق البدائية العائدة لنظام الموجة الثانية، التي نعتمدها في بحثنا عن أكثريات لا يُحصل عليها.
إننا بحاجة إلى مقاربات جديدة متلائمة أو حسنة التلاؤم مع ديمقراطية الأقليات.. وإلى أساليب تهدف إلى كشف الفروق بدلاً من سحقها، تحت ثقل أكثريات القيادة، أو الأكثريات المزيفة القائمة على الحقوق الانتخابية، وإلى تزييف المشكلات المتنازع على حلّها، أو إلى تضييق حقوق الانتخابات.
إن ما هو ضروري لنا أخيراً، هو تحديث كلي للنظام، بغية تعزيز دور مختلف الأقليات، من غير أن نحرمها الحق في تكوين الأكثريات أو الأكثرية الواحدة.
ولا شك أن الانتخاب المهيأ لمعرفة الإرادة الشعبية، أداة هامة للتغذية الراجعة ([1])، لحساب قادة مجتمعات الموجة الثانية، فإذا أصبح الوضع لسبب أو لآخر، غير محتمل لدى الأكثرية.
وكانت أكثرية، الـ 51% للناخبين تعرب عن استيائها، فإن النخب كانت تستطيع أن تغيرّ إرادتها السابقة، وتعديل الاتجاهات أو اتخاذ تدابير أخرى (من أجل المحافظة على مراكزها).
بيد أن حاجز الـ 51% حتى في إطار مجتمع جماهيري، كان معياراً سخيفاً وكمياً بالدرجة الأولى.
فالانتخاب من أجل الحصول على أكثرية، شيء له معناه. أما البحث عن رأي الناس على المستوى الكيفي (لا الكمي) فإنه شيء آخر.
إن هذا الأسلوب يدُلنا على عدد الأشخاص الذين يتمنون في لحظة ما أن يكون (س) في السلطة، ولكنه لا يدلنا على شدة الرغبة فيه حاكما،ً بل، وبصورة خاصة، هو لا يقول لنا ما يمكن أن يقبله أنصاره من التضحيات من أجل (س) ولكن هذا شيء هام جداً في مجتمع مؤلف من جملة أقليات.
ومن جهة أخرى، فإن طريقة الأكثرية، لا تقول لنا شيئاً أكثر، عندما تشعر إحدى الأقليات أنها مهدّدة إلى هذا الحد، أو أنها تعلق أهمية إلى هذا الحد أو ذاك، في نقطة معينة، بحيث أن وجهة نظرها ينبغي أن يحسب حسابها([2]).
إن نقاط الضعف هذه في المجتمع الكثير السكان (أو الجماهيري) (يعني نقاط الضعف في قاعدة الأكثرية) فإنها كانت لا تثير أحداً أو كانت مسموحاً بها، لا لشيء إلا لأن أغلبية الأقليات لم تكن تملك القوة الاستراتيجية الضرورية لقلب النظام.
غير أن تطور الأوضاع في مجتمع متشابك الأطراف، بالقوة التي نعرفها اليوم، حيث ما من أحد إلا وهو ينتسب قليلاً أو كثيراً إلى مجموعة من الأقليات، جعل ذلك الأمر غير صحيح.
لكن أنظمة التغذية ( الراجعة) المألوفة في العهد الصناعي، مفرطة البدائية، بالنسبة لمجتمع الموجة الثالثة المتناثر، الذي سيواجهنا أثناء الموجة الثالثة.
وهكذا يجب علينا استخدام التصويت الشامل، والقيام بعمليات سبر الرأي، بصور، جديدة تماماً.
ومن حسن الحظ أن تقانات الموجة الثالثة، تفتح الطريق أمام ديمقراطية مناسبة لعهد الموجة الثالثة.. وهي تفتح في سياق جديد جداً، اضبارات أساسية عكف عليها آباؤنا المؤسسون، منذ قرنين. هي تتيح للناس أشكالاً جديدة من الديمقراطية لم تكن كما يمكن تصوره حتى هذه الساعة.
([1]) التغذية الراجعة، هي أن يرتد أثر بسبب ما لظاهرة ما على الظاهرة نفسها، كالإمعان في إيذاء الأقلية، الذي يرتد على الأكثرية، ويزيد الأقلية كرهاً لها.
([2]) نحن لانعرف مثلاً، أي أذى تستطيع تقبله أقلية ما، في سبيل الدفاع عن نفسها. وعندما نكون في وضع كوسوفو، فنحن نعرف كم يستطيع سكانها قبول التضحيات، عندما يطالبون باستقلالهم. والأكثرية لاترى أي حل لهذا، إلا بالقوة.
التسميات
موجة ثالثة