يؤلف الانتشار الحالي لنظام خلق الثروة، في عهد الموجة الثالثة، تحدياً لأعمدة العقيدة الاشتراكية. ولنأخذ على سبيل المثال، موضوع الملكية.
ومنذ زمن طويل، كان الاشتراكيون يتهمّون الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بأنها السبب في القهر، والوهن، والبطالة، ومصائب العهد الصناعي الأخرى. ولكنْ لكل هذه القضايا حَل هو: ردّ المصانع إلى العمال، سواء أكان ذلك عن طريق الدولة، أم على يد المصانع الجماعية.
وعندما تمت هذه المرحلة أو عندما تتم، فإن الأمور تتغير: فما من تبديد ينشأ عن التزاحم، بالإضافة إلى تخطيط عقلاني جداً، وإنتاج يُوَجَّه لمنفعة الناس، لا لربح بعض الناس، وتوظيف ذكي، مهمته أن يعمل على تقدم الاقتصاد. وبالجملة، فإن حلم الرخاء، لأول مرة في التاريخ، سيتحقق للجميع.
وفي القرن التاسع عشر، كانت هذه الأفكار تبدو وكأنها تعكس المعرفة العلمية الأكثر تقدماً. وحقاً، فإن الماركسيين كانوا يدّعون أنهم مضوا إلى ما بعد المثل العليا الطوباوية. وكانوا قد وصلوا إلى"اشتراكية علمية" حقيقية.
وكان في وسع الطوباويين أن يحلموا بإنشاء مجموعات مستقلة داخلياً. وكان الاشتراكيون العلميون يعرفون أن مثل هذه التصورات، في مجتمع صناعي، في طور النموّ، لن تكون قابلة للتطبيق.
ولئن كان بعض الطوباويين مثل شارل فوربيه، يلتفتون إلى الماضي الزراعي، فإن الاشتراكيين العلميين، كانوا يلتفتون إلى ما كان يسمى عندئذٍ باسم المستقبل الصناعي.
وهكذا، فإنه لما جاءت النظم الاشتراكية، بعد ذلك، لتجرب التعاونيات، والإدارة العمالية، والتأميم، وحلولاً أخرى مشابهة، كان التدويل أو التأميم (1) الشكل المهيمن للملكية، في العالم الشيوعي كله. وحيثما كان، كانت الدولة -لا العمال- هي التي تصبح المستفيد الأول من الثورة الاشتراكية.
وهكذا فإن الاشتراكية لم يتحقق لها الوفاء بوعودها، أي أنها لم تحقق تحسين شروط الحياة، تحسيناً جذرياً، للناس، وعندما هبط مستوى الحياة في الاتحاد السوفيتي، بعد الثورة، عُزي ذلك لا من غير بعض الحق، إلى آثار الحرب العالمية الأولى، وآثار الثورة المضادة.
ثم بعد ذلك، جُعل الحصار الرأسمالي مسؤولاً عن صور العجز.ثم وثم كانت الحرب العالمية الثانية هي المجرم الأكبر المسؤول عن ذلك. ولكن لمَ كانت البضائع الأساسية، كالقهوة والبرتقال ناقصة أيضاً في موسكو، بعد ثلاثين سنة؟
وبصورة غريبة، وعلى الرغم من أن الاشتراكيين الأورثوذكس كانوا يتناقصون عدداً، فإنهم استمروا في الإيمان بضرورة تأميم الصناعة، والمالية.
ففي البرازيل وبيرو، وجنوب أفريقيا، وحتى في البلاد الغربية المصنّعة، ما يزال يوجد أشياء لا تردد فيها، ولا شرط عليها، على الرغم من البراهين العكسية التي قدّمها التاريخ، إذ لا يزال بين الاشتراكيين من يرى أن "الإدارة العامة" للبلاد و(أي التأميم) شيء تقدمي، ويرفض العدول عن التأميم وعن تخصيص الاقتصاد.
وصحيح أن الاقتصاد العالمي، المتزايد التحرّر، أكثر فأكثر، والمشادبه ، بصورة عمياء من قبل الشركات المتعددة الجنسية، يظل قلقا.ً ومن المؤسف أيضاً، أن اللبرلة لا تعود بخير على الفقراء، دوماً، إلا تبعاً للنموذج المعروف: نقطة فنقطة.
ومع ذلك فإن لدينا عدداً كبيراً من الشهادات التي لا مراء فيها بأن الشركات المدولة تسيئ إلى عمالها، وتلوث الجو، وتؤذي أو تسيء التعامل مع الجمهور العام، بقدر ما تفعله الشركات الخاصة، على الأقل. والكثير منها أصبح شياطين في اللانجع ، والفساد والنهم. وكثيراً ما تشجع سوقاً سوداء كبيرة، تنسف مشروعية الدولة.
ومن سخرية القدر، أن الشركات المؤممة، بدلاً من أن تكون طليعة التقدم التقني، كما هو موعود، أصبحت كلها، دون استثناء، رجعية -بل قل هي الشركات الأكثر بيروقراطية، والأبطأ في إعادة التنظيم. والأقل استعداداً للتلاؤم مع الحاجات المتغيرة للزبائن، والأكثر هلعاً من إشاعة الإعلام في المواطنين، وآخر من يتبنى التقانات الجديدة.
وخلال أكثر من قرن، كان الاشتراكيون وأنصار الرأسمالية يتجابهون بعنف حول مشكلة الملكية الخاصة والملكية العامة. وكان مئات من الرجال والنساء يهبون حياتهم لمثل هذه المعركة. ولكن ما لم يتصوره أولئك وهؤلاء، هو أن نظاماً جديداً لخلق الثروة يجعل حججهم كلها باطلة تقريباً.
ومع ذلك فإن هذا هو الذي حدث. ذلك أن شكل الملكية الأكثر أهمية، هو الذي لا تجد له أثراً بين يديك إنه عالي الرمزية. ويسمى"معرفة. ثم إن المعرفة نفسها يمكن أن يستخدمها أشخاص كثيرون، كي يخلقوا الثروة ويزيدوا إنتاج المعرفة. وعلى عكس المصانع والحقول، فإن المعرفة لا تقبل النضوب.
(1) التأميم يعني ردّ الملكية إلى الأمة، ظاهرياً أما الواقع فإن هذا التأميم يُسَمى تدويلاً، أي ردّ كل الملكيات إلى الدولة، والأصح أنه رَدٌ إلى رجال الدولة، لاإلى الدولة بالمعنى الجدي.