هنالك أجيال، قدرها أن تخلق، أن تبدع حضارة، وأخرى، قدرها أن تبقي على هذه الحضارة، وتلك التي أطلقت الموجة الثانية من التغيير التاريخي، كانت يحكم الضرورة أجيالاً خلاقه. فمونتسكيو، وستوارت ميل والماديسيون les Maldisons هم الذين اخترعوا أكثر البنى السياسية التي تبدو لنا، وكأنها أشياء طبيعية. وكان دور هؤلاء، في نقطة الفصل بين حضارتين، دور خلق الحضارة الجديدة.
وفي اللحظة الحاضرة، وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية، سواء أتعلق الأمر بالأسرة، أم بالمدرسة، أم بشركة ما، أم بالدين، أم بأنظمة الطاقة، أم بشبكات الاتصال، نجد أنفسنا، نحن أيضاً، أمام ضرورة خلق أشكال ملائمة جديدة، للموجة الثالثة.
وهنالك، في بلاد كثيرة، ملايين من الناس قد تعهدوا القيام بهذه المهمة. ولكن ما من بلد يظهر فيه تهافت البنى، وخطورة الوضع، كما هي الحال في حياتنا السياسية، وما من بلد في العالم، يتسم بمثل هذا النقص في الخيال، والتجريب، وكراهية التغيرات الأساسية، مثل بلدنا.
لكن الناس الذين يبرهنون على روح جريئة في التجديد في عملهم، سواء أكانوا في مكاتبهم، كمحامين، أم في مخابرهم، أم في مطابخهم أم في صفوفهم (طبقاتهم) أم في شركاتهم. يبدون وكأنهم يذهلون متى حدثناهم بالقليل القليل، عن مساوئ دستورنا وبنانا السياسية، وعن ضرورة تجديدها تجديداً جذرياً.
إن مجرد الإشارة إلى تغيير سياسي عميق، بما فيه من أخطار يخيفهم إلى الدرجة التي تراهم فيها يعتقدون أن الإبقاء على الوضع القائم، مهما يكن سريالياً ومؤسفاً -هو الخير الأعظم لبلد هو أحسن بلاد العالم.
وبالعكس فإن هناك في كل المجتمعات، فئة من أشباه الثوريين، المتجذرين في العقائد البالية العائدة للموجة الثانية، ترى أنه ما من تغيير مقترح، هو جذري، بالدرجة الكافية- إنهم ماركسيون متخلفون أو فوضويون رومانطيقيون، أو من أقصى اليمين، أو ثوار بالبابوح ، أو إرهابيون غيفون.، يحلمون بحكومات فنيين، مقيدة بطوبائيات القرون الوسطى. وفي الحين الذي ندخل نحن فيه. بسرعة كبيرة. في عهد تاريخي جديد، تراهم يهذون بنماذج من الثورات، استُمدت من البيانات السياسية، المصفرة مما صدر البارحة (الأيام الماضية).
ولكن في الحين الذي تشتد فيه المعركة الكبرى، نجد أننا لن نشهد استعادة أية درامة ثورية من الزمن الماضي -ولن نشهد أيضاً إنقلاباً للنخب بقوم به (حزب طليعي) يجرُّ إليه الجماهير، ولا تمرّداً عفوياً، مزيف الطهارة، يكون الإرهاب أداة لتخمره. إن إنشاء بنى جديدة سياسية ملائمة لحضارة من الموجة الثالثة، لا يتم كثمرة لأي "ليلة قدر" أو شكل احتفالي، بل سيكون نتيجة ألف تجديد، وألف صدام، تتدخل على مستويات عديدة، في أماكن كثيرة، على مدى عشرات السنين.
وهذا لا ينفي إمكانية العنف على الطريق الذي يؤدي بنا إلى الغد. وكان الانتقال من حضارة الموجة الأولى، إلى الثانية طويلاً، كمأساة دامية، أو نسيج من الحروب، أو تمردات، ومجاعات وهجرات ارغامية ، وانقلابات عسكرية. ومصائب. أما اليوم ، فإن الرهانات أعلى بكثير، والزمن أقصر، والتسارع أوضح، والأخطار أكبر وأكبر.
وكثيرة هي الأشياء التي تتعلق بالمرونة، وبالذكاء الذي تملكه النخبة، أو من هو فوق النخبة، أو تحتها حالياً، فإذا بدا أنها قصيرة النظر، مجرّدة من قوة الخيال، ومرعوبة كأكثر الفئات القيادية، في الماضي، فإنها ستقاوم الموجة الثالثة، مضاعفة بذلك أخطار العنف، ومسرعة للقضاء على جماعاتها.
وبالمقابل، فإنها إذا قبلت أن تمضي مع الموجة الثالثة وإذا اعترفت بضرورة توسيع الديمقراطية، عندئذ يمكنها أن تشارك في تأسيس حضارة جديدة، تماماً كالنخب الأكثر تبصّراً أيام الموجة الأولى التي شاركت في ولادة الحضارة الصناعية، عندما استبقت الأحداث وفهمت مغزاها.
لكنّ الوضع يختلف بين بلد وآخر. إذ لم يوجد قط في التاريخ، عددٌ بهذه الكثرة من الناس المتمتعين بمستوى ثقافي معقول، والمزوّدين، بجملتهم، بمعرفة، بمثل هذه القوة والتألق. وكذلك لم يوجد قط عدد من الناس يملكون سعة مادية، لها كل هذا اليسار- الذي ربما كان مؤقتاً، ولكنه كان، يتيح لهم أن يخصصوا جزءاً من أوقاتهم وطاقاتهم من أجل التفكير والعمل المدني.
ولنقل أيضاً لم يوجد قط هذا العدد من الناس الذين يستطيعون الاتصال، والسفر، والاحتكاك بثقافات أخرى، وكذلك، وبصورة خاصة أيضاً، تقول أنه لم يوجد قط مثل هذا العدد من الناس الذين يستفيدون عندما يسهرون على أن تتم التغيرات مهما تكن عميقة، بصورة سلمية.
وهذه النخب المثقفة أكثر من غيرها، لا تستطيع وحدها إن تبني حضارة جديدة. بل إن من الضروري أن تتآزر الطاقات بكاملها. وفعلاً فإن هذه الطاقات موجودة. ولا تنتظر إلا أن يتم تجنيدها. والحقيقة أننا إذا عهدنا للجيل القادم، وخاصة في البلاد ذات التقانات العالية، بخلق أو إنشاء مؤسسات ودساتير جديدة فعلاً، "فلربما حررنا عندئذ شيئاً أكثر بكثير من الطاقة: أي من الخيال الجمعي.
وكلما بكرنا في رسم صورة المؤسسات السياسية الجديدة، المؤسسة على المبادئ الثلاثة المشار إليها سابقاً، أي تحرير الأقليات، والديمقراطية نصف المباشرة، وتقسيم أدوات القرار- نكون عندئذ قد ضمنا الانتقال السلمي- وسرّعنا خطواته.
إن إرادة تبطئه هذه التغيرات، لا التغييرات نفسها، هي التي تزيد الأخطار. ثم إن الإرادة العمياء في الدفاع عما قد فات أوانه، هي التي تزيد أخطار المجابهات الدموية.
ونتيجة ذلك، اننا إذا أردنا تجنب الاضطرابات العنيفة بترتب علينا، منذ الآن، أن نركز الجهود على مشكلة تقادم العهد على البنى السياسية في العالم، وعدم تسليم هذه المشكلة إلى الخبراء وحدهم -مثل الاختصاصيين في الحقوق الدستورية، والمحامين والسياسيين- ولكن إلى المؤسسات المدنية، والنقابات والكنائس، والجماعات النسائية، والأقليات العرقية، والعلماء وربات البيوت، ولرجال الأعمال.
ويجب علينا، في المرحلة الأولى،أن نفتح نقاشاً عاماً، موسعاً بقدر الإمكان، حول موضوع: ضرورة الدعوة إلى نظام سياسي يتلاءم مع حاجات الموجة الثالثة.
ويجب أن نكثر من المحاضرات، والإذاعات المرئية، والندوات حول طاولة مستديرة، والتدريب على تمثيل صور الحضارة القادمة.
وإنشاء ما يشبه الجمعيات الدستورية (المجالس الدستورية) أملاً باستخلاص مجموعة من المقترحات المتصلة بإعادة البنى السياسية، وبفتح الطرق للحصول على سيل من الأفكار الجديدة. وعلينا أن نهيء أنفسنا لاستخدام كل ما يمكن استخدامه من أفكار عادية، أو مؤنقة، مما نحن قادرون على الاستفادة منه، بدءاً من الأقمار الصناعية والحواسيب حتى ما يسمى بال VIDEO- DISQUE (1 في التلفزيون ال INTERACTIVE وما من إنسان يعرف بدقة ما سيكون عليه المستقبل، ولا مم يتألف منه ولا ما يتلاءم أفضل التلاؤم مع الموجة الثالثة.
ولهذا السبب، فإن ما يجب أن نتصوره ونضعه في حسابنا ليس إعادة تنظيم كتلة واحدة ووحيدة، وليس باستحالة ثورية وحيدة، مفروضة من الخارج، بل الذي نريده هو آلاف التجارب اللامتمركزة (الخالية من المركزية) التي تتيح لنا أن نتحقق من قيمة نماذج جديدة لانضاج القرار، على المستويين المحلي والمناطقي، تسبق تطبيقات أخرى وطنية، وأكثر من وطنية.
وعلينا في الوقت نفسه أن نبدأ بإنشاء مركز انتخابي بغية القيام بتجريب مشابه، يتناول المؤسسات الوطنية، والتي تشمل أكثر من بلد واحد، بغية إعادة صهرها، وتنظيمها من جديد.
وفي يومنا هذا ربما استطاع انقشاع الوهم المشترك بين الكثيرين من الناس، والتعصب، والمرارة، من حكومات الموجة الثانية، أن تتحول، بالقوة نفسها،إما إلى استشاطة الغيظ العصبي والطائفي، استجابة لبعض الديماغوجيين المتعطشين إلى الدماء، وإما إلى ما يغذي سيرورة إعادة بناء الديمقراطية.
وعندما نقوم بحملة تربوية واسعة -هي تجربة للديمقراطية المسبقة في عدد كبير من البلاد في الوقت نفسه -نستطيع أن نقيم عقبة أمام الهجمات الدكتاتورية (التوليتارية): ونستطيع أن نهيء الجماهير للتشتت والأزمات المهلكة التي ترقبنا. ونستطيع أن نمارس تأثيرات محلية مركّزة استراتيجياً في الأجهزة السياسية الموجودة، بغية تسريع التغيرات الضرورية.
فإذا غضضنا النظر عن هذا الضغط الضخم، المتجه من تحت إلى فوق- فعلينا ألا نأمل ألا يتحرك القادة الحاليون الرسميون - كالرؤساء ورجال السياسة، والشيوخ وأعضاء اللجان المركزية- لإدانة مؤسساتٍ مهما تكن قلقة أو متفسخة- تظل بالنسبة إليهم مصادر نفوذ وثروة، وهذا من غير أن ندخل في الحساب، أنها تقدم لهم الشعور بامتلاك شكل السلطة كبديل عن حقيقتها.
إن بعض رجال السياسة المطلعين واليقظين، وبعض الشخصيات المتميزة، سيقدمون يد المساعدة في المعركة الهادفة إلى تغيير المؤسسات السياسية، إلا أن أكثرهم لن يتحركوا، قبل أن تكون المطالب الخارجية قد اكتسبت قوة لا تقاوم، أو قبل أن تكون الأزمة التي بلغت الكثير من النضج، وملأت الدنيا عنفاً، بحيث لا يرى في الأفق إمكانية أخرى.
وعلى ذلك فإننا نحن -آخر الأمر- المسؤولون عن حركة التغيير. ولنقل إن علينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا عن طريق التعلم بأن لا تغلق عقولنا قبل الأوان، على ما هو جديد.
وهذا يعني أن نقف ضد خانقي الأفكار السريعين إلى القضاء على كل موقف جديد، بدعوى أنه غير واقعي، أولاً يمكن تحقيقه، نعني أولئك المدافعين باستمرار عن كل ما سبق أن وُجدَ، حتى ولو كان سخيفاً، قاهراً أو غير قابل للاستغلال- بدعوى أنه صالح للاستخدام. وهذا يعني ضرورة القتال -أو النضال من أجل حرية التعبير - ومن أجل حق الناس في صياغة آرائهم حتى ولو كانت من نوع الهرطفة.
وهذا يعني بشكل خاص أن نقوم دون تباطؤ، بتيسير سيرورة إعادة البناء، قبل أن تصاب النظم السياسية القائمة بالانحلال، وقبل أن تكون قد وصلت إلى العتبة الكريهة، التي تتفلت بعدها قوى الاستبداد، وتجعل من المستحيل أن يتم الانتقال بصورة سليمة إلى ديمقراطية القرن الواحد والعشرين.
فإذا نحن بدأنا العمل دون تأخير، فإننا نستطيع نحن وأبناؤنا أن نساهم في هذا العمل المثير لحماسة الإنسان، ونعني به، لا مجرد إعادة بناء بنانا السياسية التي عفى عليها الزمن، بل إعادة بناء الحضارة نفسها.
وكما كانت حال جيل الثوريين سابقاً، فإن قدرنا نحن هو أن نخلق مصيرنا.
(1) video disque، أسطوانة بلاستيكية تحمل في جوفها جملة من المعلومات المختارة والضرورية لحاجة أو أخرى، من حاجات الإنسان.
التسميات
موجة ثالثة