مهما تكن أو تبدُ لنا قوى الموجة الثانية، فإن مستقبلها شديد القلق. وفي بداية العهد الصناعي، كانت قوى الموجة الأولى تسود المجتمع والحياة السياسية. وكانت النخب الريفية تبدو وكأنها ستظل تتحكم في الحياة العامة إلى الأبد. ولكن ذلك لم يكن صحيحاً... ولو أنها احتفظت بالسلطة، إذن لما كان للثورة الصناعية أن تغير صورة العالم.
إن العالم اليوم في طريقه إلى التغير. والأكثرية الساحقة من الأمريكيين، ليست مزارعين، ولا عمالاً، إلا أنهم يمارسون شكلاً أو آخر من أشكال العمل القائمة على المعرفة. وأهم الصناعات التي تتقدم في أمريكا بأكبر سرعة، هي الصناعات التي تملك الإعلام الأقوى.
ولا يقتصر قطاع الموجة الثالثة على الإعلام المتقدم، أو الإليكترونيات أو البيوتكنولوجيات (أي الصناعات الإلكترونية. والتقانة الحيوية أو الحياتية). بل إنه، بفضل التصنيع المغمور بالمعلوماتية infonmatise. يصل إلى كل القطاعات، بما في ذلك من إدارات مثل المالية، وأنظمة الحواسيب، وصور اللهو، ووسائل الإعلام، والاتصالات المتقدمة والخدمات الطبية، والاستشارة، والتنشئة والتعليم، وبالجملة، كل النشاطات القائمة على العمل العقلي، أكثر مما هي قائمة على القوة العضلية. ولن يطول الأمر بشعب هذا القطاع، حتى يكون هو الفئة الناخبة، في الحياة السياسية الأمريكية.
وخلافاً "لجماهير" العصر الصناعي، نجد أن جماعة الموجة الثالثة، متنوعة جداً. وهي تتألف من أشخاص أو فرديات، تتميز باختلافها. بل إن اختلافها نفسه يعبّر عن نقص الوعي السياسي عندها. إنها أصعب على التوحيد من جماهير الأيام الخالية.
وعلى هذا، فإنه يجب على جماعة الموجة الثالثة أن تشغّيل ما لديها من عقول مفكرة، وإنضاج إيديولوجية سياسية. إنها لما تتلق الدعم المنتظم للانتيليجانسيا في واشنطن، فأنديتها ولوبياتها تظل جديدة نسبياً، وغير متسقة فيما بينها، ثم إن ما لدى وكلاتها من الأسلحة التشريعية، باستثناء نقطة واحدة هي الألينا Alena، حبت غلبت جماعة الموجة الثانية ضئيل / قليل.
ومع ذلك، فإن هناك قضايا مصيرية (حاسمة) يستطيع الناخبون (من جماعة الموجة الثالثة) الذين هم على وشك أن يصبحوا الأكثرية) أن يتفقوا عليها، بدءاً من التحرير: أي التحرر من مجموعة القواعد والأنظمة، والضرائب، والقوانين العائدة للمجموعة الثانية، التي أسست لمصلحة بارونات العهد الصناعي، وبيروقراطيية.
ولما كانت قد وضعت في العهد الذي كانت فيه الموجة الثانية، تؤلف أو تشكل قلب الإقتصاد الأمريكي، فإنها -كتدابير- تعرقل اليوم تنامي الموجة الثالثة.
ولما كانت معايير الضرائب قد وُضعت بضغط من رجال المصالح الصناعية، مثلاً.. فإن مدة استهلاكها (المحسوب على أساس تغيير المصنع وأدواته بعمر ما أو زمن ما) تقتضي أن تكون المكنات والمنتجات، ذات حياة طويلة.. ولكن الأمر يختلف مع الصناعات المتقدمة التي تتجدد بسرعة، وخاصةً في الأنفورماتيك informatique.
وحقاً فإن عمرها يقاس بالأشهر، بل وبالأسابيع.. وهكذا، فإن معيار الضريبة السابق يؤذي التقانة المتقدمة. ثم إن الاستنتاجات "المقبولة" حول نفقات"البحث" و"التنمية" تتحيّز للشركات الكبرى، التابعة للموجة الثانية، ضد الشركات الدينامية التي تشكل مركز الانطلاق للموجة الثالثة.
والواقع أن الضريبة على ما لايحس به، ومالا يُشغل عمالاً كثيرين، ستكون متحيزة بالضرورة(1) عند ما يحسب عدد العمال، وعدد المكنات، بغض النظر عما فيها من حداثة، أو تقادم. ويبقى أخيراً أنه سيكون مستحيلاً أن تغيَّر هذه القواعد من غير أن تقوم معركة سياسية تحسم المشكلة.
إن شركات الموجة الثالثة ذات ميزات مشتركة. فهي فتية، بصورة عامة، بالقياس إلى تاريخ نشوئها، أو بالنسبة للعمر المتوسط لموظفيها.
فإذا قورنت بشركات القطاع الصناعي، وجدنا أنها منظمة على أساس وحدات عمل صغيرة وهي توظف أموالاً أكثر من المتوسط (المألوف) سواء أكان ذلك في مجال الأبحاث أوالتنمية، أوالتنشئة، أم في الموارد الإنسانية. ذلك أنها دوماً تجاه مزاجمة عنيفة جداً ترغمها على التجديد باستمرار: ومن هنا تنشأ دورات حياة قصيرة، تحتاج إلى تجديد العاملين والأدوات والممارسات الإدارية.
أما رأس مالها الحقيقي والأساسي، فإنه يتألف من رموز معشعشة في أدمغة مستخدميها. أفيمكن أن نتوقع من هذه الشركات وهذا النوع من الفعاليات أن تحترم قواعد اللعبة التقليدية، التي إذا هي طبقت عليها، كانت نوعاً من العقاب لها؟.
إن جزءاً كبيراً من قطاع الموجة الثالثة، يشغل نفسه بتقديم مجموعة هائلة ومتجددة من الخدمات. وبدلاً من التنديد بنشاط هذا القطاع من الخدمات، ولومه باستمرار على أنه مصدر قليل الإنتاجية، ألا يكون من الأفضل أن ندعمه، ونزيد ثروته (أو رأسماله)- أو، على أقل تقدير، تحريره من المعوقات القديمة؟
إن على أمريكا" طمعاً بتحسين صورة الحياة لشعبها، أن تقدم له الكثير من الخدمات، لا العدد الأقل منها. وهذا ما يعني: تقديم العمل لكثيرين من الناس، أو لكل الناس: بدءاً من صيانة الأجهزة الإلكترونية، إلى المخطط الجديد، مروراً بالمساعدين الطبيين.. وتقديم الخدمات للأشخاص المعمرين، والشرطة، ورجال الإطفاء، حتى رعاية الأطفال، وخدم البيوت إذا مست الضرورة، لا سيما إذا كان الأبوان يعملان. وعلى سياسة الاقتصاد الجديد، اقتصاد الموجة الثالثة، أن لا تنتقي الرابحين والخاسرين، بل أن تقضي على كل ما يعرقل تنمية المهن. وزيادة الخدمات، بحيث نجعل الحياة أقل توتراً، وغبناً، وإمحاءاً للذاتية، ولكن يبقى أن نلاحظ أن هذه المقاربة ليست من عناصر أو مطالب أي حزب سياسي.
وعلى الرغم من هذا النوع من التخلف، فإن محامي الموجة الثالثة يرتفع شأنهم يوماً بعد يوم. وهم يعبرون عن أفكارهم أكثر فأكثر بعيداً عن الأحزاب السياسية التقليدية، لأنه ما من واحد من الحزبين، انتبه لوجودهم، ونراهم يمضون ليزيدوا وجودهم في المنظمات المتزايدة العدد، كل يوم، والشديدة القوى، التي تتناثر داخل البلاد، وهم الذين يسودون المجتمعات الإلكترونية الجديدة التي تتكاثر حول الـ: Imternet (الإنترنيت) وهم أيضاً الذين يعملون على تفكيك وسائل إعلام الموجة الثانية، وعلى خلق حلول بديلة.
أما الساسة التقليديون، الذين لا يريدون أن يفهموا هذه الحقائق، فسوف يكنسون من الطريق، تماماً كالنواب الإنجليز في القرن التاسع عشر الذين كانوا يتحينون الفرصة للاستفادة من الرواتب دون عمل لأنهم كانوا منتخبين.. من الضواحي الفاسدة..(من القصبات الغضة).
وحتى الآن لم تجد قوى الموجة الثالثة ناطقاً باسمها في أمريكا. فإذا وجد حزب يتكلم بلسانها، فإنه بالتأكيد سيسيطر على مستقبل أمريكا.
ومنذ الآن، سنجد أو سنرى من خلال ركام القرن العشرين الموشك على الانتهاء ظهور أمريكا جديدة. مختلفة جوهرياً من التي سبقتها.
(1) ما من ضريبة تفرض من قبل السلطات العامة إلا وهي تتحيز للتوظيف المادي، ضد التوظيف الإعلامي، والموارد الإنسانية والتوظيفات اللامحسوسة الأخرى. وهذه، على ما نعلم، هي الأهم بالنسبة لشركات الموجة الثالثة.
التسميات
موجة ثالثة