لئن كان الجمهور العام، لا يزال، حتى اليوم، غافلاً عن الأهمية الحاسمة لهذا الفصل بين الطرفين، فذلك لأن الصحافة تقضي قسماً كبيراً من الوقت، في ترديد صدى المألوف السياسي المعتاد، أي الصراع بين طرفي الموجة الثانية اللذين يتنازعان رفات النظام القديم، ولكن هذه الجماعات، على الرغم من اختلافاتها، تسرع أو تستعجل في إقامة السدود أمام مبادرات الموجة الثالثة.
ولهذا حدث ما نعرفه عام 1984(1)، عندما رشح غاري هارت Gary Hart نفسه عن الحزب الديمقراطي، وكسب الانتخابات الأولية في نيوها مشير New Hamqshire، بإعرابه عن تمنياته بقيام "تفكير جديد". لكن زعماء للموجة الثانية القدماء، داخل الحزب الديمقراطي، جمعوا قواهم لقطع الطريق عليه وتزعيم Walter Mondale، البطل الموثوق والصلب ضد الموجة الثانية.
ولهذا السبب أيضاً تعاون حديثاً النادريون Naderiens، نادريو الموجة الثانية ضد الـ Alena، مع البوكانيان Buchaniens، بوشانيي الموجة الثانية.(2)
ولهذا السبب أيضاً لوحظ أنه عندما وضع الكونغرس، قانوناً حول البنى التحتية" عام 1991، وظف فيه 150 مليار دولار للطرق، والطرق الكبيرة (الأوتوسترادات) والجسور، وإزالة الحفر - ضامناً بذلك أرباحاً كبيرة لـ شركات الموجة الثانية، و للاستخدامات في نقابات الموجة الثانية.
وفي الوقت نفسه، خُصص المبلغ التافه، مبلغ المليار دولار لإقامة أوتوسترادات الإعلام المشهورة (Reseau) ومهما تكن الطرق والأتوسترادات ضرورية، فإنها على كل حال، تظل جزءاً من البنية التحتية للموجة الثانية، على حين أن الشبكات الإصبعية (Reseauxdigitaux (3، تقع في قلب الموجة الثالثة.
وليست المشكلة، في هذه المناسبة، أن نعرف ما إذا كان على السلطات العامة أن تساعد أو لا تساعد الشبكة الإصبعية، بل المشكلة هي اتصالها بعدم التوازن بين قوى الموجتين الثانية والثالثة في واشنطن.
وبسبب عدم التوازن هذا، لم ينجح نائب ريئس الجمهورية آل غور Gore- الذي كان له موطئ قدم في الموجة الثالثة- على الرغم مما بذله من جهد- في إعادة خلق الحكومة التي تتمتع بالروح التي تقتضيها الموجة الثالثة.
وفي الحين الذي كانت فيه الشركات- بضغط من المزاحمة- تحاول يائسة أن تفكك بيروقراطياتها، واختراع أشكال جديدة للإدارة، خاصة بالموجة الثالثة، فإن الإدارات، المشلولة بنقابات موظفي الموجة الثانية، ظلت -إلى حد كبير- في المؤخرة: والخلاصة، إنها إذ ترفض أي إعادة لانبساط، وأي إعادة اختراع، نراها تحتفظ ببناها المعروفة في عهد الموجة الثانية.
هذا وإن نخب الموجة الثانية تناضل وتحارب بغية الاحتفاظ بماضٍ تجاوزه الزمن، بحكم أنها تحصل الآن على ثرواتها وسلطاتها، عن طريق تطبيق مبادئ الموجة الثانية. أما الأخذ بصورة حياةٍ جديدةٍ، فإنه قد يضع موضع البحث هذه الثروة وهذه السلطة.
لكن النخب ليست وحيدة في هذا المجال. ذلك أن ملايين من الامريكيين الفقراء أو من الطبقة المتوسطة، تقاوم هي أيضاً هذا الانتقال إلى الموجة الثالثة، لأنها تخشى -وكثيراً ما تكون في هذا على حق- أن تبقى في المؤخرة، وأن تفقد استخداماتها، و الانحدار بعض الشيء عن مستواها الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا شئنا أن نفهم قوة العطالة، لدى كتائب الموجة الثانية في أمريكا، فإن علينا أن ننظر إلى ماوراء الصناعات القائمة على الجهد الجسدي. بل علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من نقاباتها وعمالها.
ذلك أن قطاع الموجة الثانية يتمتع بدعم الـ Wall Street ورجاله الذين يضمنون له حاجاته. وكذلك فإنه مدعوم به من قبل المثقفين والجامعيين، الذين كثيراً ما يتقاضون رواتب حقيقية، بلا عمل حقيقي. وكثيراً ما يتلقون منحاً من المؤسسات والتعاونيات النقابية. أو من اللوبيات التي يخدمونها.
أما عملهم فإنه يقوم على جمع المعطيات الملائمة لأهوائهم، وتنميق الحجج والشعارات الأيديولوجية الخاصة بالموجة الثانية: مثال ذلك أن يقال: إن الإدارات ذات الإتصالات الإعلامية الكثيفة، غير منتجة، وإن مستخدمي هذا القطاع محكومون، بتقديم الهامبورغر لطالبيه، أو أن على الصناعة أن تعمل في إطار"الفبركة" (أي تظل دائماً دائرة، لتنتج إنتاجاً كثيفاً) وأمام هذا النوع من إقامة السدود، بصورة متصلة، فإنه ليسَ من المستغرب أن حزبينا السياسيين يعكسان فكر الموجة الثانية.
ثم إن نظريات "النجع" التابعة لهذه الموجة، تكشف لنا عن شرح استسلام الديمقراطيين استسلاماً شبيهاً بردّ الفعل" لحلول بيروقراطية متمركزة، لحل مشكلاتٍ، من نوع أزمة الضمان الاجتماعي. وعلى الرغم من أنه يوجد رجل سياسي، متفرد، مثل نائب رئيس الجمهورية، غور Gore- وهو نائب رئيس الـ Congressionnal Clearing house on the future، سابقاً- الذي يعترف بأهمية التقانة المتقدمة، فإن الديمقراطيين يظلون شركاء في دعمهم للموجة الثانية، وشركاء إلى الدرجة التي يبقى فيها حزبهم، في كل ما هو شيء أساسي، مشلولاً أمام القرن الواحد والعشرين.
ومن هارت Hart، في الثمانينات، إلى Gore في التسعينات، نجد النواة الصلبة لوكلاء الحزب الديمقراطي، تمنع الحزب من السير على الطريق التي يشير إليها رؤساؤهم الأكثر بعد نظر (أو الأكثر وعياً).
وهكذا فإن الحزب يجد نفسه شبه فريسة لتصوره للواقع- أي واقع الياقات الزرقاء. وهذا النوع بين الإخفاق، لدى الديمقراطيين -العاجزين عن البروز كحزب مستقل(كما كان من قبل)- هو الذي يترك الباب مفتوحاً جداً لأعدائه.
ولما كان الجمهوريون أقل تجذّراً في الشمال الشرقي الصناعي القديم، فإن الفرصة متاحة لهم للاتسام بسماتهم، أي في الظهور كحزب الموجة الثالثة، على الرغم من أن رؤساءهم الأخيرين قد فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة.
وهكذا نجد الجمهوريين، يستسلمون، هم أيضاً، لما يشبه المنعكس الرضفي ( أو الشرطي) في كل خطاب يتصل بالموجة الثانية.
ولا شك أن الجمهوريين على حق في الدعوة إلى خلع الأنظمة القائمة الموروثة، على مقياس واسع، وذلك لأن الشركات بحاجة لكل المرونة لمجابهة المزاحمة العالمية.. ولهؤلاء الجمهوريين كل الحق في الدعوة إلى تخصيص الخدمات العامة، ذلك أن الادارات التي تستفيد من"اللا مزاحمة" تؤدي واجباتها الإدارية بصورة سنية بدرجة كافية.
وللجمهوريين أيضاً كل الحق في الدعوة إلى الإستفادة، إلى أعلى درجة ممكنة، من الدينامية والقدرة على الخلق، اللتين تجعلان اقتصادات السوق ممكنة. إلا أنهم يبقون هم أيضاً، أسرى النظرية الاقتصادية المعروفة في الموجة الثانية. وحتى أنصار اقتصاد السوق الذين يستند إليهم الجمهوريون، مثلاً"، لم يحسنوا التلائم مع الدور الجديد للمعرفة.
ثم إن الجمهوريين مايزالون أسرى بعض العمالقة الذين ينتسبون إلى ماضي الموجة الثانية، وهم مدينون لها بأنديتهم المهنية، ولوبياتهم(جمع لوبّي)، وبطاولاتهم المستديرة التي تعرف فيها السياسة.
وثالثة الأثافي، هي أن لديهم ميلاً إلى الغضّ من قيمة الانقلابات الاجتماعية الضخمة التي يمكن توقعها من أي تغيير له عمق الموجة الثالثة.
مثال ذلك أننا في زمن تصبح فيه الكفاءات عديمة القيمة (أو فات أوانها)، بين يوم وآخر، وجماهير المستخدمين من أبناء الطبقة الوسطى، الذين قد يكونون ممتازين في تخصصاتهم، كل هؤلاء يمكن أن يفقدوا فجأة أعمالهم، ويصبحوا بلا عمل، يدل على ذلك وضع الباحثين والمهندسين الكاليفورنيين، المختصين بمشاكل الدفاع، وهذه حالة مبئسة جداً.
و ليس اقتصاد السوق، واقتصاد النقطة بعد النقطة اللذان جُمّدا وتحولا إلى عقائد لاهوتية، بالجواب الكافي. وعلى كل حزب ينظر إلى المستقبل، أن يلفت الانتباه إلى المشكلات القادمة، وأن يضع تدابير وقائية، تحول دون الوقوع فيها.
مثال ذلك، هذه الثورة الإعلامية(الصحفية، وما يجاورها من وسائل الإعلام) التي يمكن أن تقدم أرباحاً ضخمة للاقتصاد الناشئ من الثورة الإعلامية.. غير أن المشتريات التي تتم عن طريق الهاتف (أو الفاكس مثلاً).
والخدمات الإلكترونية الأخرى، يمكن أن تقلل من عدد الدكاكين الصغيرة، في القطاع التقليدي للبيع بالمفرّق، الذي يتيح للشباب الضعفاء الإختصاص، أن يدخلوا في الحياة النشيطة(أو الفاعلة).
ولكن يبقى اقتصاد السوق والديمقراطية، حيَّين، وعلى الرغم من التغييرات الضخمة، والاضطرابات القادمة، فإنه ينبغي على السياسة أن تكون بعيدة النظر، ووقائية أيضاً. بيد أن من الصعب أو من النكران للجميل، أن نطلب من أحزابنا السياسية أن تفكر فيما هو أبعد من الانتخابات القادمة.
والحزبان اللذان نملكهما، مشغولان بحقن الشوق في عروق وكلائهم. ومنذ بعض السنين، مثلاً، كان الديمقراطيون يتحدثون عن "إعادة التصنيع" أو عن إعادة بناء الصناعة الأمريكية، بأمَل أن تجد عظمتها التي عُرفت لها في الخمسينات (والحقيقة أنهم يتحدثون عن عودة مستحيلة إلى اقتصاد الإنتاج الكثيف).
وفي الوقت نفسه، كان الجمهوريون الذين وقعوا فيما يشبه الصورة في المرآة(الصورة المرءآوية) يعظّمون الشوق، بخطاباتهم عن الثقافة والقيم، كما لو أنه يمكن إعادة الإتصال بقيم عام 1950 وأخلاقه -أي قبل ظهور التلفزيون العالمي (أو الكلي)، وقبل حبة منع الحمل، وقبل الطيران النفاث، وقبل الأقمار الصناعية، والحواسيب الفردية- من غير العودة، في الوقت نفسه، إلى المجتمع الصناعي ذي الإنتاج الكثيف الذي توسم به الموجة الثانية. وكان بعضهم يتحدث عن Rireer rouge، والآخرون يتحدثون عن أوزي وهارييت OZZIE et Harriette.
وكان الجناح الديني للحزب الجمهوري، يرى أن"الليبراليين" و"الإنسانيين" والديمقراطيين، هم المسؤولون عن تدهور الأخلاق. وهو لا يرى أن أزمة نظام القيم لدينا تكشف عن أزمة أعمّ لحضارة الموجةِ الثانية.
وبدلاً من أن نتساءل كيف ندعو إلى أمريكا جديدة من طراز الموجة الثالثة، غنية الكرامة، والأخلاق، والديمقراطية، كان أكثر رؤسائها يكتفون بتحبيذ العودة إلى الماضي.
وبدلاً من التساؤل، عن: كيف نبني مجتمعاً أخلاقياً، عادلاً، غير متكتل، كان الكثيرون يقدمون لنا الانطباع بأن ما يريدونه حقاً في الواقع هو إعادة تكتيل وزيادة حجم الولايات المتحدة remassifier.
ومع ذلك، فإن هناك فرقاً بين الحزبين. فعلى حين أن التواقين إلى الموجة الثانية، داخل حزب الديمقراطيين، مؤتلفون ومجتمعون في النواة الصلبة، نجد أنهم لا يؤلفون إلا هامشاً من"المثارين أو المتعصبين في الحزب الجمهوري. فإذا عَبرً هذا من قدرته على التجميع، وانفتح للتغيير، فإن المستقيل، يكون من، أو بسبب(العصبة المركزية) للحزب.
وتلك هي(أو ذلك هو) النداء الذي حاول Newt Gingrich، رئيس مجموعة الجمهوريين في الكونغريس، أن يعلنه، بنجاح محدود، أو يوصله إلى حزبه، فإذا هو نجح، فإن الديمقراطيين يغامرون كل المغامرة، في التعلق بأهداب غبار الباحة السياسية.
وفي عام 1980 كان لي أتويتر Lee ATWTER مستشاراً سياسياً مسموع الكلمة لدى الرئيس ريغان. ثم إنه، فيما بعد، صار رفيق الرئيسBush في ألعابه الرياضية، ومدير حملته الانتخابية. وبعد فترة قصيرة من انتخابات ريغان، وزّع نماذج من كتاب"الموجة الثالثة، على موظفي البيت الأبيض. ثم إنه اتصل بنا، وكان لنا في السنين التالية، محادثات منتظمة معه.
وعندما كنا في آخر عشاء لنا يحضره هو، قلنا له: إن من المؤسف أن لا نجد لدى الديمقراطيين، رؤية إيجابية لأمريكة الموجة الثالثة. ورأى أتواتر أننا على حق، ولكنه فاجأنا بإضافة جميلة في الحديث، قال فيها"وحتى الجمهوريون لا يملكون ما تقول. "وأضاف شارحاً كلامه: إنه ما من حزب يملك صورة إيجابية عن المستقبل: "وهذا هو السبب في أن الحملة كانت سلبية إلى هذه الدرجة." لا ريب إذن أن قصر النظر في الجهتين يشعرنا بأن أمريكا قد افتقرت.
(1) ثلاث سنوات قبل أن يتهم بفساد حياته الشخصية.
(2) من الواضح أن المشار إليهم زعماء يمثلون اتجاهات متباينة، مع أو ضد الموجة الثالثة.
(3) يبدو أن هذا الإصطلاح من عالم المعلوماتية، وربما عنى الإعلام باللمس
التسميات
موجة ثالثة