صورة من بعيد تنعش الذاكرة المتآكلة

من غير قصد وقعت عيناي من بعيد على شبح امرأة تحاول القيام من الأرض ... حاولت صرف نظري عنها ولكن من باب الفضول أبت عيناي المطاوعة والانصياع لأمري وأصرت على متابعة خطوات ومراحل قيام تلك المرأة من على العتبة ... استندت على الأرض بيديها ثم على ركبتيها وهكذا قامت وكأن مغنطيساً يجذبها إلى الأرض... ولحسن حظي لحقتها قبل أن تدخل البيت دون أن أصطدم بشيء ... نظرت إلى وجهها فاكتشفت أنها في الثلاثينات من عمرها على الأكثر ولم تكن تتمتع بالتخن المثقل ! وعلى طول طريقي وأنا أتساءل لما تلك المرأة ثقيلة الحركة؟ مع أنها كانت شابة ... فركبت الباص متوجهة نحو العمل فإذا بسيدة أخرى متوسطة العمر تركب الباص بنفس الطريقة التي تركب بها امرأة في الستين فقلت عجباً! إذاً مالفرق بين أن تكون الواحدة في الستين من عمرها أو أن تكون في الثلاثين من عمرها! ثم استرجعت ذاكرتي إلى الوراء بحثاً عن السبب  فرأيت طيفي أيام الدراسة عندما كنت في الداخلية كيف كنت أصعد السلم منحنية الظهر وقبل وصولي إلى  الدور الثالث الذي كنت أسكنه وكأني خاشعة في الركوع وأنفاسي تتسارع... وكانت أمنيتي الوحيدة أن يستقبلني أحدهم بكرسي وثير وكوب من العصير البارد ... قبل وصولي إلى غرفتي وهي أحد الأمنيات التي لم تتحقق لي على رغم عرضي هذا الطلب على بعض الزميلات ولكن كان ردهن دائماً الضحك خصوصاً من قبل الآسيويات ... وإذا بصورة تلك السيدة التي نالت إعجاب الجميع تتجسد في خيالي ... وكانت تعتبر لنا بمثابة أم ... القدوة ... شعرها الفضي الناعم والخطوط المرسومة على خديها وحول عينيها يلمحان بكبر سنها... وبشرتها الناصعة البياض وعيناها الزرقاوتان وخديها الورديتان يفضحون بأنها من سكان الثلوج ... إنها من روسيا البيضاء وتحديداً من موسكو العاصمة ... كانت قصيرة القامة ... قوية البنية ممتلئة الجسم ... خفيفة الحركة وكأنها ريشة تتمايل مع النسائم العليلة... لقد تجاوزت الخمسين من عمرها كانت من عشاق الدور الثالث لأنها ترى في صعود السلالم رياضة بينما كانت الفتيات يتشاجرن للحصول  على الدور الأول والغريب إن هذه السيدة كانت تصعد السلم دون توقف مستقيمة الظهر وكأنها خشب منحوت ... أحببت كثيراً طريقة حياتها ومشيها وخفتها ... وأردت أن أعرف سبب تميزها ولكن عدم  وجود المعرفة بيننا مثل  حاجزاً أمام فضولي ... وجاءتني الفرصة لأتعرف عليها ... حيث كان من طبعها بعد أن تصلي الفجر أن تنزل إلى الحديقة وتمارس الرياضة بمختلف أنواعها من بينها رياضة غريبة سميتها رياضة الخفاش ... حيث كانت تتسلق الأشجار ثم تتدلى من على إحدى أغصانها كأنها خفاش حقيقي ... وذات الصباح وهي على تلك الحالة وانكسر بها الغصن ووقعت على رأسها ولم نحصل على الخبر إلا بعد عودتها من المستشفى معصومة الرأس ... وأمرها الطبيب بعدم مغادرة الفراش إلا بعد الشفاء... زرتها لأداء الواجب وللتعرف عليها عن قرب وبعد الاطمئنان على حالها سألتها سبب ممارستها هذا النوع الغريب من الرياضة، قالت لي لأن هذه الرياضة مفيدة وتغذي المخ فقلت لها وهل ستعاودينها بعد هذا الحادث قالت بكل تأكيد ثم سكتت برهة وقالت وهي تعدل الوسادة يا ابنتي الرياضة جزء من حياتي لا يمكنني الاستغناء عنها... أتعلمين كنت في الحضانة عندما بدأت ممارسة الرياضة ... كان المدرسون وأولياء أمورنا يجبروننا على مداومة الرياضة حتى صارت جزءً لا يتجزء من حياتي ثم قالت برأيك لم أنا خفيفة الحركة وقوية وأختار دائماً الدور الثالث؟ ابتسمت وقلت لها هذا هو سبب سؤالي ثم استمريت في كلامي وقلت لها مالذي دفعك وأنت في هذا العمر أن تعيشي حياة الغربة وتبدئي سلم الدراسة من أول ابتدائي؟ تنهدت ألماً ثم قالت ديني ... الإسلام ... أي ...نعم لست ممن يبحثون عن الشهادات فأنا أحمل شهادة في الطب وأخرى في الفيزياء والثالثة في السياحة والفندقة ورابعة في الترجمة ... صحيح أن عائلتي مسلمة ولكننا لا نعرف الإسلام ... أخي مسلم ولكنه يملك مصنعاً للخمور ... ثم قالت ما رأيك بهذا الأمر؟ انحرجت والتزمت الصمت ولم أحرك ببنت شفاه ... ثم قالت لقد عشت حياتي بمعنى الكلمة وسافرت كثيراً وفي لحظة من لحظات راجعت نفسي ووضع المسلمين في بلدي الذين يحملون اسم الإسلام وبسببه يهجرون إلى المناطق المعزولة الغير المسكونة... لقد تركت الرفاهية وجئت هنا إلى الأزهر لأتعلم ديني ولغة القرآن ... ألم تلاحظي أنني لا أملك غير بدلتين للنوم وأخرتين للخروج وبدلة للرياضة؟! ألا ترين حالة غرفتي ؟ أنظري جيداً لا شيء هنا  إلا للضرورة... أتعرفين لما فعلت ذلك؟  قلت لا, قالت: لأني لا أريد عند العودة أن يثقلني شيء غير الكتب الدراسية التي سأحملها لأبدأ بهم  مشروعا تعليميا  لأهل بلدتي  الذين يجهلون دينهم ...ثم قدمت لي نصيحة غالية  مفادها  أن أحب وألازم من يقدم لي معلومة أو يضيف إلي رصيدي شيئا مفيدا حتى ولو كان بسيطا....قالت لي اختاري وانتقي من بين الناس من لديه قدرة علي تغذية عقلك وفكرك تغذية سليمة.... وهكذا علمتني تلك المرأة النموذجية الفريدة من نوعها أن الإنسان يجب بناؤه وتكوينه منذ نعومة أظافره , كما أنه يجب أن يعيش ويحسن من حياته ليؤدي رسالة سامية ...ليحقق أهدافا , وإلا ما الفرق بيننا و بين الحيوانات ؟...ومن يومها  و صورتها المشرقة شامخة  في خيالي ...ومنها عرفت سبب خفتها مع كبر سنها وسبب ثقل فتياتنا في الحركة . . . حقق الله أمنياتها قولوا آمين.
نبيهة عبدو فارح
أحدث أقدم

نموذج الاتصال