رغم أن مجال القانون الجزائي واضح ومحدد، حيث ينظم العلاقة بين الدولة والفرد بمناسبة جريمة ارتكبها، فيشمل بذلك تحديد الجرائم التي يعاقب عليها القانون والعقوبات المقررة لكل منها، الأمر الذي يعني استقلاله عن القانون الدستوري بما لا يدع مجالاً للخلط بينهما، فإن هذا لم يمنع من وجود صلات وثيقة بين هذين القانونين.
فإذا كان القانون الدستوري يعالج نظام الحكم في الدولة من حيث بيان أهدافه والأسس التي يقوم عليها، فإن القانون الجزائي هو الذي يحمي هذا النظام من الاعتداء عليه، وذلك من خلال ما يقرره من عقوبات لمن يحاول تقويض هذا النظام أو هدم أسس بنيانه.
ومثال ذلك النصوص التي تضمنها قانون العقوبات السوري، المتعلقة بالجرائم الواقعة على أمن الدولة، كالجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي (كالخيانة، والتجسس، والصلات غير المشروعة بالعدو، والنيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي).
وكذلك أيضاً الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي (كالاعتداء الذي يستهدف تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة، أو منع السلطات القائمة من ممارسة وظائفها الدستورية، أو إثارة الحرب الأهلية أو النعرات المذهبية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة، أو العصيان المسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور، أو اغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو عسكرية، أو النيل من مكانة الدولة المالية).
كما يعمل القانون الدستوري على توجيه قانون العقوبات وتحديد نطاقه، حيث يسهم الدستور من خلال الحريات والحقوق التي يكفلها (الفصل الرابع من الباب الأول من الدستور السوري النافذ) في تحديد محل الحماية الجنائية، كذلك يسهم القانون الدستوري في تحديد العفو عن العقوبة، حيث يجيز لرئيس الجمهورية منح العفو الخاص.
أما العفو العام فلا يكون إلا بقانون يصدر عن السلطة التشريعية (المادتين 150 و151 من قانون العقوبات السوري)، كما يسهم الدستور في تحديد نطاق قانون العقوبات من حيث تحديد الجرائم التي تمس حرية ونزاهة الانتخابات العامة، ومعاقبة الأفعال التي من شأنها أن تعوق السوريين عن ممارسة حقوقهم أو واجباتهم المدنية، والأعمال التي ترتكب بهدف التأثير في اقتراع أحد السوريين بقصد إفساد نتيجة الانتخاب العام عن طريق اللجوء إلى أساليب الترغيب والترهيب، وكذلك أيضاً معاقبة العابثين بإرادة الناخبين، وكل من يحاول التلاعب بنتيجة الانتخابات أو تزويرها.
وإذا كانت المبادئ والقواعد الدستورية تحدد طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة والتي تحكم مضمون قواعد القانون الجنائي، لكي تجعلها أكثر انضباطاً مع الإرادة العامة للشعب المتمثلة في الدستور، وتأكيد حماية (الحقوق والحريات الفردية) و(المصلحة العامة التي تمس كيان الدولة) من خلال إحداث توازن فيما بينها، فإنها تسهم ـ من ناحية أخرى ـ في تكوين القانون الجنائي، فهي ليست مجرد جزء من القانون الدستوري، بل إنها تجاوز هذا النطاق لكي تسهم في تحديد مضمون القانون الجنائي ذاته.
فالنصوص الدستورية تتضمن هي الأخرى أحكاماً متعلقة بالقانون الجزائي، ومحددة للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفة الدولة في التجريم والعقاب، ومثال ذلك النص في الدستور على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني)، ومبدأ عدم رجعية القوانين الجزائية (لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ولا يكون لها اثر رجعي ويجوز في غير الأمور الجزائية النص على خلاف ذلك)، ومبدأ افتراض البراءة في الإنسان (كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم)، إلى غير ذلك من المبادئ المتعلقة بالتشريعات الجزائية.
وأكثر من ذلك، فقد يخضع العمل الواحد لقواعد القانون الدستوري والقانون الجزائي معاً، ومثال ذلك القيام بانقلاب ضد الحكومة، فإن فشل القائمون به خضعوا لأحكام القانون الجزائي، وإن نجحوا اعتبر هذا النجاح عملاً دستورياً وحكمته القواعد الدستورية، خاصة فيما يتعلق بالأحكام المنظمة للحكومة الفعلية (أو الواقعية)، بل وقد يؤثر هذا النجاح في بقاء الدستور أو سقوطه كلاً أو جزءاً.
وواضح من هذا مدى الصلة الوثيقة بين كل من القانون الدستوري والقانون الجزائي، وإن كان هذا لا ينفي استقلال كل منهما عن الآخر.