صيحات الفقر والجوع والحرمان في شعر الصعاليك.. تعليل الثورة العنيفة على المجتمع الظالم. إثبات أن الفقير اذا تعفّف كان أقوى وأكرم من الغني الجشع المتهالك على الماديات

تتردد في أشعار الصعاليك صيحات الفقر والجوع والحرمان، وتحسّ في اعترافهم بذلك تعليلاً لثورتهم العنيفة على مجتمعهم الظالم، الذي أهزلهم وأهزل غيرهم، يقول عروة:
وإني امرؤ  عافى إنائي شركة -- وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى -- بجسمي شحوبَ الحقّ والحقّ جاهد
أفرّق جسمي في جسومِ كثيرة -- وأحسو قراح  الماء والماء بارد

فهذا القول يمثل عرضاً أوليّا تلقائيا لمشكلة تعدّ من أعظم المشكلات التي تواجه الصعلوك، ومن أكبر الحواجز التي تعيق تقدّم المجتمع، فضلاً عن تعذر الاتّساق والاندماج في كيانه.

فمشكلة الغذاء كانت من أبرز ما يحرّك هذه الشّريحة من الشعراء الفرسان للتطلّع الى تجاوز هذا الواقع بخطوات متواصلة نحو نموذج آخر يطمحون إليه.

ويعبّر عن هذا التجاوز لذلك المحدود، والاستطالة على واقع اختلّت فيه الحياة الاقتصادية تأبّط شرّا، في أسلوب حواري بينه وبين امرأة خطبها، ولكنها وقعت تحت تأثير قوم أقنعوها بالعدول عنه، ويبرر الشاعر القيم الحقيقية التي ينبغي أن تؤلف بين قلوب بني البشر، وفي هذا الشعر صورة الانسان الذي يريده الشاعر:
وقالوا: لها لا تنكحيه فانـّه -- لأوّل نصْل أن يلاقي مجمعـا
فلم تَرَ من رأي فتيلاً وحاذرت -- تأيّمها من لابس الليل أروعـا
قليلِ غرار النوم أكبرُ همه -- دمُ الثأر أو يلقى كمينا مقنعـا
قليل ادخار الزّاد الاّ تعلّـةً -- وقد نشز الشْرسوف والتصق المِعا

ولا يشكّ أحد فيما يفعله هذا الموقف من الأثر العميق في النفس البشرية. فإذا ما أحسّ الفقير بوصمة العار من لدن مجتمعه، فانه يتحول إلى حركة فاعلة ضد واقعه، وخاصّة حين تتخذ المرأةُ الجوعَ مقياساً لشخصيته وفاعليته الزوجية بصورة سلبية.
وليس غريباً أن يتخذها الفقير نفسه أداة لتدمير كل الجسور الاجتماعية بينه وبين قومه.

وقد وضعت هذه المشكلة الانسان الصعلوك في حياة ايقاعية أخرى تمثل بعداً وجدانياً آخر في مواجهة هذا الواقع لم تلبث أن تحوّلت إلى طاقة جديدة محركة لوجود إنساني جديد.

فالشنفرى الأزدي ينقل إلينا صورة حيّة تجسّد النزوع إلى البرّ في جوّ عجيب من الفروسية الأصيلة تحت جناح الرحمة، بصورة عضوية تصدر عن نقاء موصول بتعشّق الانسان المثال، يقول:
وأمّ  عيال قد شهدت تقوتهـم -- إذا  أطعمتهم  أَوْ تَحتْ وتقلّت
تخافُ علينا العَيْلَ إن هي أكثرت -- ونحن  جياعُ  أيّ  آلٍ  تألّـت
وما ان بها ضِن بما في وعائها -- ولكنّها من  خيفة الجوع أبقت
مصعلكةٌ لا يقصر السّتر دونها -- ولا  ترتجى للبيت ان لم تبيّت
لها وفضة فيها ثلاثون سيحفـا -- اذا آنستْ أولى العديّ اقشعرّت

ويذكر الأعلم الهذلي أهله الذين تركهم جياعاً، وأولاده الصغار الشعث الذين يتربصون ناظرين لأقاربهم عسى أن يطرحوا لهم شيئاً من الطعام، يقول:
وذكرتُ أهلي بالعرا -- ءِ وحاجةَ الشُّعث التّوالبْ
المُصْرِمينَ مِنَ التّلا --  دِ اللاّمحين إلى الأقاربْ

ويشكو السّليك بن السلكة ما فعل به الجوع في أشهر الصيف القائظة، حتى كان يصيبه بالدّوار والإغماء، ويكاد يورده حتفه، فيقول:
وما نلتُها حتى تصعلكتًُ حقبةً -- وكدتُ لأسباب المنية أَعرفُ
وحتى رأيتُ الجوعَ بالصّيف ضرّني -- إذا قمتُ تغشاني ظِلالٌ فأسُدِفُ

أما تأبط شرّاً فقد أصابه الجوع بالهزال، فالتصقت أمعاؤه، وبرزت أضلاعه، فيقول:
قليلُ ادّخارِ الزّادِ إلاّ تعلّةً وقد نَشَزَ الشَّرسوفُ والتصق المعا

ويصور، أيضاً، في محادثة بينه وبين ذئب فقره، وهو مثل ذلك الذئب لا يملك شيئاً، وانما يعتمد في معيشته كما يعتمد الذئب كلّما أحسّ بالجوع، بل يشك في أن الذئب بلغ من الفقر ما بلغه هو، فيقول:
وقَرْبةِ  أٌقوامٍ جعلتُ عصامها -- على  كاهلٍ  منّي  ذلولٍ  مرحّل
ووادٍ كجوف العيْر قفر قطعتُه -- به  الذئب يعوي كالخليع المعيّل
فقلت  له  لمّا عوى انّ شأننا -- قليل  الغنى إن كنت لمّا  تموّل
كلانا  إذا ما نال  شيئاً أقامه -- ومن يحترث حرثي وحرثك يهزلِ

وأما الشنفرى فيحدثنا عمّا يملك في دنياه البائسة، فلا نجد له غير بقية نعلين وثوب ممزق، يقول:
وليس جَهازي غيرُ نعلَيْن أُسحقتْ -- صدورُهما مخصورةً لا تُخَصّفُ
وَضنيّةٍ  جرْدٍ  وأَحْلاقِ  رَيْطــةٍ -- إذا أنهجت مـن جانب لا تكفَّفُ

ويقول عمرو بن براقة: إن سيفه معظم ماله:
وكيف ينام الليلَ من جُلُّ ماله -- حسامٌ كلون الملح أبيضُ صارمُ
ويصرخ عروة بأن سلاحه كل ما يملك، فيقول:
ومالي مالٌ غير درعٍ ومغفرٍ -- وأبيضَ من ماءِ الحديدِ صقيلِ

ومع هذه الواقعية في أدب الصعاليك حين يعترفون بفقرهم وجوعهم، تحسّ أنّهم قد بلغوا درجة عالية من عزّة النفس وقوتها، وأنهم لفرط صحبتهم للفقر قد تدربوا على قهر أنفسهم وضبطها، وحرّموا عليها التهالك على الطعام والملذات، حتى لا يصبح نيْلُ الزاد عندهم مثلاً أعلى ينسوْن في سبيله كرامتهم.

ويقدم أبو خراش صورة نبيلة لذلك الجوع، الذي يطيل حَبسه على يملّه، فيمضي عنه دون أن يلحقه منه عار، وهو يكتفي بالماء القراح في حين يستمتع البخلاء الأشحاء بزادهم، فإذا ما تلظى الجوع في بطنه فإنه يرده ويغلبه على أمره، وهو يؤثر عياله على نفسه بالطعام، وهو يفعل ذلك كلّه حتى يعيش حياةٍ كريمة لا تسقط الى مهاوي المذلة والهوان والعار حيث يكون الموت خيراً من الحياة. يقول:
واني لأثوي الجوع حتّى يملّني -- فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
وأغتبق  الماء القَراحَ فأكتفي -- إذا  الزّاد  أمسى للمزلج ذا طعم
مخافة  أن أحيا برغم  وذلة -- وللموت خير من حياة على رغم

والشنفري يرسم لنا صورة أخرى لهذا التعفّف الذي تتّسم به حياة الصعاليك الواقعية، والذي يقهرون به أنفسهم برغم فقرها وجوعها، ليثبتوا لأنفسهم حيث يظَنّ بها الضعف، وليثبتوا أن الفقير اذا تعفّف كان أقوى وأكرم من الغني الجشع المتهالك على الماديات من الأمور، يقول الشنفرى:
إذا  مدّت  الأيدي  إلى  الزادِ لم -- أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجلُ
ومـا  ذاك إلاّ  بسطة عن تفضّـل -- عليهـم وكان الأفضل المتفضلُ
وأستـفّ ترب الأرض كي لا يرى --  له عليّ مـن الفضل امرؤ متفضلُ
ولولا اتّقاء الـذم لـم يُلْـفَ مشـربٌ -- يعاش بـه الاّ لـديّ ومـأكـلُ
ولكـن نفسـاً حـرّة لا تـقيـم بـي -- على الخسف الاّ ريثما أتحـوّلُ
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى -- وفيها لمن خاف القلى  متعـزّلُ
أحدث أقدم

نموذج الاتصال