"السانـّا" أو الأرابيكا: رحلة لغة عربية معزولة في قبرص – من الأصول الشامية إلى التحديات الحديثة والتأثر اليوناني

اللغة العربية القبرصية: لهجة فريدة في طريقها إلى الزوال

تُعدّ اللغة العربية القبرصية، والمعروفة محليًا باسم "السانـّا" أو "الأرابيكا"، إحدى الجواهر اللغوية النادرة والمهددة بالانقراض، وهي بمثابة شاهد حي على التاريخ العريق للموارنة في جزيرة قبرص. تتحدث بها هذه الجماعة المسيحية الصغيرة، وتتميز بتفردها وعزلتها عن سائر اللهجات العربية، مما أكسبها خصائص فريدة تستدعي الدراسة والحفظ.



نشأة وتطور لغة معزولة:

يعود تاريخ وصول الموارنة إلى قبرص إلى موجات هجرة متتالية بدأت في القرن السابع الميلادي واستمرت حتى القرن الثالث عشر. جاء هؤلاء المهاجرون من بلاد الشام، حاملين معهم لغتهم وثقافتهم. ولكن، وبفعل العزلة الجغرافية واللغوية التي فرضت عليهم في بيئتهم الجديدة، بدأت لغتهم العربية تتطور بشكل مستقل عن التغيرات التي طرأت على اللهجات العربية في الشرق الأوسط.

هذا الانفصال طويل الأمد أدى إلى تباعد كبير بين العربية القبرصية واللهجات العربية المعاصرة، لدرجة أنها أصبحت غير مفهومة تقريبًا لمتحدثي العربية اليوم. لم يقتصر التأثير على العزلة فحسب، بل لعبت اللغة اليونانية القبرصية دورًا محوريًا في تشكيل هذه اللهجة، حيث تغلغلت مفرداتها وتراكيبها وحتى بعض خصائصها الصوتية في نسيج العربية القبرصية.


خصائص فريدة تميز السانـّا:

تتميز اللغة العربية القبرصية بمجموعة من الخصائص التي تجعلها فريدة من نوعها:

  • الانعزال اللغوي: تطورت اللغة العربية القبرصية بشكل مستقل عن اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية السائدة، مما جعلها غير مفهومة تقريبًا لمتحدثي اللغة العربية المعاصرة.
  • التأثر باليونانية: تأثرت اللغة بشكل كبير باللغة اليونانية القبرصية، خاصة في النطق والمفردات.
  • الأصول: تحتوي على كلمات عربية، لكن العديد منها لا يمكن فهمها بسهولة من قبل المتحدثين العاديين للغة العربية الحديثة. كما تحتوي على مصطلحات عربية من أصل آرامي.
  • النطق: فقدت بعض الحروف الحلقية والصوتية المميزة للغة العربية، وتأثر نظامها الصوتي بشدة باليونانية.
  • غياب الشكل المكتوب: تاريخيًا، كانت اللغة العربية القبرصية لغة منطوقة بشكل أساسي، ولم يكن لها نظام كتابي موحد. ومع ذلك، بذلت محاولات حديثة لوضع قواعد كتابية لها، حيث يتم استخدام الأبجدية اليونانية في الغالب لكتابتها، وأحيانًا الأبجدية اللاتينية من قبل اللغويين.
  • تهديد الانقراض: بسبب تناقص عدد المتحدثين بها (حوالي 1000-1200 شخص، ومعظمهم فوق سن الثلاثين ولا يتحدثونها كلغة أولى)، تعتبر اللغة مهددة بالانقراض بشدة. تبذل جهود لإحيائها والحفاظ عليها من خلال مبادرات مثل المخيمات الصيفية لتعليمها للأجيال الشابة.

صراع من أجل البقاء: تحديات وحلول

للأسف، تواجه اللغة العربية القبرصية خطر الانقراض الشديد. كان الغزو التركي لشمال قبرص عام 1974 نقطة تحول كارثية للغة والمجتمع الماروني على حد سواء. فقد كانت قرية كرماكيتي، الواقعة في شمال قبرص، المركز الثقافي واللغوي للموارنة، حيث كانت العربية القبرصية متداولة على نطاق واسع. ولكن بعد النزوح القسري للسكان إلى جنوب الجزيرة وتشتتهم، تدهور استخدام اللغة بشكل ملحوظ.

اليوم، يقدر عدد المتحدثين باللغة العربية القبرصية بحوالي 1000 إلى 1200 شخص فقط، ومعظمهم من كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم الثلاثين عامًا، والقليل منهم يتحدثونها كلغتهم الأم الأساسية. هذا التدهور دفع منظمة اليونسكو إلى تصنيف السانـّا في عام 2002 كلغة "مهددة بالانقراض بشدة".

ولمواجهة هذا الخطر، بُذلت جهود كبيرة للحفاظ على اللغة وإحيائها. في عام 2008، تم الاعتراف باللغة العربية القبرصية كلغة أقلية في قبرص، وذلك ضمن إطار الميثاق الأوروبي للغات الإقليمية أو لغات الأقليات لمجلس أوروبا، مما منحها بعض الحماية القانونية والدعم الرسمي. كما تُنظم مبادرات مجتمعية، مثل المخيمات الصيفية، لتعليم اللغة للأجيال الشابة، على أمل غرس حبها وتعزيز استخدامها قبل أن تختفي هذه اللهجة الفريدة إلى الأبد.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال