من ريادة ماركوني إلى شغف الهواة: رحلة التلغراف اللاسلكي وديمومة شيفرة مورس في عالم الاتصالات الحديثة

تطور الاتصالات اللاسلكية: من التلغراف السلكي إلى شيفرة مورس هواةً

لطالما سعت البشرية إلى تجاوز قيود المسافة في التواصل، ومع بداية القرن الثامن عشر، شهد العالم تطورًا كبيرًا بظهور خطوط التلغراف السلكية. كانت هذه الخطوط ثورة في زمانها، حيث أتاحت إرسال الرسائل لمسافات طويلة بسرعة لم تكن معهودة من قبل، معتمدة على إشارات كهربائية عبر الأسلاك.


غير أن هذه الثورة لم تتوقف عند الأسلاك. ففي نهاية القرن التاسع عشر، تمكن الشاب الإيطالي العبقري غولييلمو ماركوني من تحقيق إنجاز تاريخي: بث أول برقية لاسلكية. كان هذا الحدث نقطة تحول كبرى، حيث أشر بميلاد عصر جديد للاتصالات، وحول العالم بأكمله تدريجيًا نحو استخدام البرقيات اللاسلكية التي لم تعد بحاجة إلى بنية تحتية معقدة من الأسلاك الممتدة.


تراجع الاستخدام الرسمي وبقاء شغف الهواة:

على الرغم من هيمنة التلغراف اللاسلكي لعقود، إلا أن المشهد اليوم مختلف تمامًا. فمع ظهور وتطور وسائل الاتصال الحديثة مثل الهواتف، والفاكس، والإنترنت، والاتصالات الفضائية، لم يعد أحد يستخدم طريقة الاتصال بالبرقيات اللاسلكية في الدوائر الرسمية. لقد تخلت عنها جميع الدوائر البريدية والحكومية في كل أنحاء العالم، لتصبح هذه التقنية جزءًا من التاريخ العملي للاتصالات.

لكن المفارقة تكمن في أن هذه الطريقة لم تندثر تمامًا. فقد وجدت ملاذًا وحياة جديدة بين الهواة، ولا تزال تمثل واحدة من الطرق الكلاسيكية والجوهرية لاتصالاتهم. هناك عدة أسباب رئيسية وراء استمرار شغف الهواة بالتلغراف اللاسلكي (المعروف غالبًا باسم "CW" اختصارًا لـ "Continuous Wave"):

  1. سهولة تصميم وبناء أجهزة الاتصال: يتميز نظام التلغراف اللاسلكي ببساطته النسبية من الناحية الفنية، مما يتيح للهواة تصميم وبناء أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بهم بتكاليف معقولة. هذه السهولة تشجع على الابتكار والتجريب، وتوفر متعة خاصة لعشاق الإلكترونيات والاتصالات.
  2. امتحان شيفرة مورس كمتطلب سابق للترخيص: تاريخيًا، كان اجتياز امتحان العمل بطريقة مورس (شيفرة مورس) واحدًا من المتطلبات الأساسية التي يمنح بموجبها الهاوي صلاحية العمل على نطاقات الاتصال للموجات القصيرة (HF bands). كان هذا الامتحان بمثابة بوابة للدخول إلى عالم الاتصالات بعيدة المدى، ويعد إتقان شيفرة مورس مهارة أساسية ومحل فخر للهواة.
    • تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الإجراء قد قامت عدة دول بالتخلي عنه نهائيًا في السنوات الأخيرة. جاءت هذه الخطوة بهدف تشجيع المزيد من الهواة للانضمام إلى الهواية، وتسهيل حصولهم على تراخيص التشغيل، مع التركيز على المعرفة التقنية وقواعد التشغيل الآمنة بدلاً من الإتقان الإجباري لشيفرة مورس. ومع ذلك، لا تزال العديد من جمعيات الهواة حول العالم تحتفي بمهارة مورس وتشجع على تعلمها.

آلية عمل التلغراف اللاسلكي (شيفرة مورس):

تعتمد أجهزة الإرسال البرقية على توليد تردد لاسلكي، يمكن أن يكون ذو قدرة إرسال قليلة (للاتصالات المحلية) أو عالية (للاتصالات الدولية عبر الموجات القصيرة). يقوم الهاوي بعد ذلك بـتشكيل هذا التردد عن طريق الوصل والقطع بواسطة مفتاح تلغراف (Morse key) على فترات زمنية مختلفة. هذا التشكيل ينتج عنه ما يُسمى بـإشارة مورس.

تتكون إشارة مورس من عنصرين أساسيين:

  • النقاط (Dots): وهي نبضات قصيرة جدًا من التردد.
  • الفواصل (Dashes): وهي نبضات أطول قليلاً، عادة ما تكون ثلاث مرات طول النقطة.

تُستخدم هذه النقاط والفواصل لتمثيل الحروف الأبجدية، والأرقام، وبعض علامات الترقيم، وفقًا لنظام ترميز عالمي. على سبيل المثال، حرف 'A' (ألف) يرمز له بنغمتين: الأولى قصيرة (نقطة)، والثانية طويلة (فاصلة)، ويكتب رمزه هكذا (.-). هذا النظام يسمح للمشغلين المهرة بالتواصل بكفاءة حتى في ظروف التشويش العالية، أو باستخدام أجهزة بسيطة، مما يجعله طريقة اتصال فريدة ومجربة عبر الزمن.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال