تطور النقد الثقافي.. دراسة النصوص والخطابات في ضوء المقاربة الثقافية، باعتبار أن النص حامل لثقافة معينة، سواء أكانت مادية أم معنوية

من المعلوم أن الدراسات الثقافية (Cultural studies) قد ظهرت منذ القرن التاسع عشر، أو ربما قبل هذه الفترة بكثير، في ظل العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة..)، مع انبثاق الثورة الصناعية.

هذا، وقد انتشرت الدراسات الثقافية بشكل متميز في الغرب منذ سنة 1964م، مع تأسيس مركز بريمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة، وبروز مدرسة فرانكفورت في الأبحاث الثقافية ذات الطابع النقدي والسوسيولوجي، لتنتشر الدراسات الثقافية بشكل موسع في سنوات التسعين في مجالات عدة، بعد أن استفادت من البنيوية ومابعد البنيوية.

وتشكلت على هداها نظريات ومذاهب وتيارات ومدارس واتجاهات ومناهج نقدية وأدبية، وظهرت في الغرب مجموعة من الدراسات الثقافية لدى رولان بارت، وميشيل فوكو، وبيير بورديو صاحب المادية الثقافية، وإدوارد سعيد، وهومي بابا، وجي سي سبيفاك، وجان بودريار، وجان فرانسوا لوتار...

ويعني هذا أن مدرسة بريمنغهام الإنجليزية ومدرسة فرانكفورت الألمانية من المدارس التي ساهمت في إغناء الدراسات الثقافية، فكانت النظرية النقدية تنظر إلى النقد الأدبي على أن من بين وظائفه الرئيسة التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل، في حين أن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي.

وكانت هناك نظريات أخرى ساهمت في إفراز النقد الثقافي والدراسات الثقافية إلى جانب مدرسة بريمنغهام ومدرسة فرانكفورت كنظرية (ما بعد الحداثة)، والنظرية التفكيكية، ونظرية التعددية الثقافية، والنقد النسوي، والمادية الثقافية، والماركسية الجديدة، ونظرية الجنوسة، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، ونظرية التلقي أو التقبل، وثقافة الوسائل والوسائط الإعلامية، والخطاب السردي التكنولوجي...

هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من الثقافة: ثقافة الاستقبال وثقافة الرفض والمقاومة. وتنبني ثقافة الرفض بدورها على أنواع ثلاثة من القراءات: قراءة الهيمنة، وقراءة التحاور، وقراءة المعارضة.

بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في سنوات الثمانين من القرن العشرين (1985م) في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد  هذا النقد من البنيوية اللسانية، والأنتروبولوجيا، والتفكيكية، ونقد (ما بعد الحداثة)، والحركة النسوية، ونقد الجنوسة، وأطروحات مابعد الاستعمارية..

 ومن ثم، لم ينطلق النقد الثقافي إلا بظهور مجلة (النقد الثقافي) التي كانت تصدر في جامعة مينيسوتا في شتى المجالات الثقافية. وبعد ذلك، أصبح النقد الثقافي يدرس في معظم جامعات الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعتني أيما عناية بتدريس العلوم الإنسانية.

بيد أن مصطلح النقد الثقافي (Cultural criticism) لم يتبلور منهجيا إلا مع الناقد الأمريكي فنسان.ب.ليتش Vincent.B.Leitch، الذي أصدرسنة 1992م كتابا قيما بعنوان (النقد الثقافي: نظرية الأدب لـ(ما بعد الحداثة)).

ومن ثم، فليتش هو أول من أطلق مصطلح النقد الثقافي على نظرية (مابعد الحداثة)، واهتم بدراسة الخطاب في ضوء التاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والمؤسساتية ومناهج النقد الأدبي.

وتستند منهجية ليتش إلى التعامل مع النصوص والخطابات ليس من الوجهة الجمالية ذات البعد المؤسساتي، بل تتعامل معها من خلال رؤية ثقافية تستكشف ماهو غير مؤسساتي وماهو غير جمالي.

كما يعتمد النقد الثقافي عند ليتش على التأويل التفكيكي، واستقراء التاريخ، والاستفادة من المناهج الأدبية المعروفة، والاستعانة بالتحليل المؤسساتي...

كما أن منهجية ليتش هي منهجية حفرية لتعرية الخطابات بغية تحصيل الأنساق الثقافية استكشافا واستكناها، وتقويم أنظمتها التواصلية مضمونا وتأثيرا ومرجعية، مع التركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية للظواهر النصية لرصد الأبعاد الإيديولوجية، متأثرا في ذلك بجاك ديريدا، ورولان بارت، وميشيل فوكو..

ويعني هذا أن ليتش ينتمي إلى نقد ما (بعد الحداثة)، حيث يلتجىء إلى تشريح النص تفتيتا وتفكيكا، واستجلاء الأنظمة غير العقلية والأنساق الثقافية الإيديولوجية ضمن رؤية انتقادية وظيفية.

وبتعبير آخر، يتعامل ليتش مع النص أو الخطاب بالتركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية، وتفكيكها اختلافا وتقويضا وتضادا على غرار التصور التفكيكي عند جاك ديريدا.

ويعمل ليتش أيضا على نقد المؤسسة الأدبية التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسة.
ومن ثم، ينتقد ليتش المؤسسة الثقافية التي كان لها تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء.

وهنا، يتفق ليتش في نقده مع نقاد استجابة القارىء، مثل: بليتش وفيش... ويتفق كذلك مع نقاد مؤسسة الأدب كتودوروف وكوللر، وتأثر كذلك بميشيل فوكو وجيل دولوز وليوتار الذين انتقدوا مؤسسات المجتمع الاستهلاكي بربط الخطاب بالمؤسسة.

كما يستعرض ليتش مجموعة من الأعمال الثقافية التي تنتمي إلى النقد المؤسساتي، مثل: كتاب إدوارد سعيد عن (الاستشراق)، وكتاب ميشيل فوكو حول (السلطة والمعرفة).

وهنا، يضيف ليتش مصطلحا آخر إلى نظرية التقويض لدى جاك ديريدا، وهو مصطلح التمأسس (Instituting). ويعني المصطلح استحالة الهروب من المؤسسة، بدلالة أنه لايمكن محاربة المؤسسة إلا بواسطة مساءلة المؤسسة نفسها.

ومن أهم النقاد العرب الذين انبهروا بالنقد الثقافي عند فانسان ليتش هو الناقد السعودي عبد الله محمد الغذامي في مجموعة من كتبه النظرية والتطبيقية، مثل: (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية الغربية) (2000م)، وكتاب (تأنيث القصيدة والقارىء المختلف)(1999م) ، وكتاب (نقد ثقافي أم نقد أدبي) (2004م)..

فإذا أخذنا كتابه القيم (النقد الثقافي) الذي ظهر في طبعته الأولى سنة 2000م، فإن الكاتب يحدد فيه مفهومه للنقد الثقافي، ويذكر أهم الخلفيات المعرفية التي كانت وراء ظهور النقد الثقافي، مع التركيز على (فانسان ليتش) باعتباره رائد النقد الثقافي في الحقل النقدي الأمريكي.

وبعد ذلك، ينتقل الكاتب إلى توضيح عدته المنهجية التي حصرها في مجموعة من المفاهيم، كالجملة الثقافية، والمجاز الثقافي، والتورية الثقافية، والدلالة الثقافية، والوظيفة النسقية، والنسق المضمر، والمؤلف المزدوج...ومن ثم، يخلص الكاتب إلى تطبيق منهجيته الثقافية على الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر، مركزا على أشعار المتنبي، وأبي تمام، ونزار قباني، وأدونيس...

هذا، وقد توصل الباحث إلى أن هذا الشعر كان شعر الفحولة، والتغني بالطاغية الذكوري، وقد امتد هذا إلى شعر الحداثة الذي صار شعرا رجعيا؛ لأنه يسير على النهج القديم في تمجيد الفحولة والطاغية.

وفي هذا النطاق، يقول الغذامي: تصنع أدونيس شعرا جميلا وخلابا، لكنها لاتضيف شيئا جديدا جدة جوهرية إلى الثقافة العربية، ذلك لأن الشعر مذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس، وهي أسس خالصة الشعرية، ولقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل، وهي في عرفنا ما أسهم في شعرنة الشخصية العربية، وصيغها بالصبغة الشعرية، حتى صار النموذج الشعري هو الصيغة الجوهرية في المسلك والرؤية، مما سمح للنسق الفحولي التسلطي والفردي بأن يظل هو النهج والخطة.

وبما أن أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه، فإنها لايمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري والاجتماعي.

وملاحظة أدونيس على غياب الحداثة في البعد الاجتماعي والفكري صحيحة بالضرورة، والسبب فيه وفي نموذجه الذي هو نموذج مغرق في رجعيته، وإن بدا حداثيا، وادعى ذلك، إنها حداثة في الشكل وحداثة فردية متشعرنة،  فيها كل سمات النموذج الشعري، بجماليته من جهة، وبنسقيته من جهة ثانية.

أما في كتابه الثاني (نقد ثقافي أم نقد أدبي؟)، فقد دخل في سجال نقدي مع الدكتور عبد النبي اصطيف حول مبادىء النقد الثقافي، وقد تبين لنا مدى التباعد بين الكاتبين، واختلاف وجهة نظريهما بشكل طبيعي.
فالأول يدافع عن النقد الثقافي، والثاني يدافع عن النقد الأدبي.

هذا، ويصدر الباحث الجزائري حفناوي بعلي كتابا بعنوان(مدخل إلى نظرية النقد الثقافي المقارن)، وقد اعتمد في عرض آرائه على كتابات عبد الله الغذامي التي تعتبر مراجع ومصادرأساسية لكل الكتابات العربية في النقد الثقافي بحثا وجمعا وتوثيقا ونقدا.

أما الدكتور صلاح قنصوة في كتابه (تمارين في النقد الثقافي)، فإنه يدرس الجمل والأمثال الشعبية الشائعة والمتداولة بين الناس، في ضوء المقاربة الثقافية القائمة على مجموعة من التصورات الفلسفية ذات الطابع الاجتماعي لكي يقيم الدليل على انعدام الهوة بين الإنسان العامي والإنسان المثقف، مختلفا في ذلك مع أبي حامد الغزالي، وابن سينا، وأبي حيان التوحيدي. ومن ثم، يتضمن الكتاب قواعد وتمارين تطبيقية ووضعيات للإنجاز.

وعليه، يعرف صلاح قنصوة الثقافة  بأنها فعالية سلوكية وذهنية وفكرية يمكن تعليمها وتعلمها، ويتم نقلها عبر الأنساق والنظم الإجتماعية. وبعد ذلك،  يقسم الثقافة إلى ثلاثة مستويات: ثقافة الجلد، وهى تتضمن العرق والدين واللغة، وثقافة المشترك أو المتصل القومى، والثقافة المعاصرة للمجتمع أو الأمة.

هذا، ويعرف النقد الثقافي بأنه دراسة النصوص والخطابات في ضوء المقاربة الثقافية، باعتبار أن النص حامل لثقافة معينة، سواء أكانت مادية أم معنوية، قولا أم ممارسة فعلية.

ومن ثم، يحصر النقد الثقافي في نقد الأساطير والأوهام على غرار تفكيكية جاك ديريدا، ونقد الأصولية الدينية تقويضا وتفكيكا، والوقوف ضد فكرة صراع الحضارات التي يطرحها صمويل هتنغتون، وتعرية الداروينية الجديدة، ونقد كل الأفكار والقضايا المستجدة في الساحة الفكرية العالمية بصفة عامة، والساحة العربية بصفة خاصة.

علاوة على ذلك، ينتقد بعض النصوص في ضوء المقاربة الثقافية كدراسة (ألف ليلة وليلة) الزاخرة بالأنساق الجمالية والثقافية والفلسفية والحجاجية. كما يرصد المؤلف ثنائية الهوية والغير من خلال الدفاع عن الذات.
وفي الوقت نفسه، يمارس الكاتب النقد الذاتي لتقويم بنية الثقافة العربية تفكيكا وتشريحا ورصدا.

ومن الكتب التي تندرج ضمن النقد الثقافي ماكتبه محسن جاسم الموسوي تحت عنوان (النظرية والنقد الثقافي)، حيث يرى الكاتب أن النقد الثقافي قد ظهر مرافقا لنظريات (مابعد الحداثة) أو مابعد البنيوية، وأن هذا النقد يستعين بمجموعة من العلوم المعرفية، لمعرفة أثر فعل الثقافة في المجتمعات.

ويهتم الكتاب بقضية الحياة الثقافية وتعقيداتها وأنساقها في المجتمعات العربية.
والكتاب في الحقيقة دعوة صريحة لممارسة النقد الذاتي، وتصحيح أخطائنا وعيوبنا، والنظر إلى الواقع بمنظار تفكيكي حقيقي، بغية التحرر من شرنقات النقص والتخلف والتقوقع الحضاري.

ويذهب جاسم الموسوي إلى أن النقد الثقافي يهتم كثيرا بتناول النصوص والخطابات التي تحيل على  الهامشي والعادي والمبتذل والعامي واليومي والسوقي والوضيع، في مقابل النصوص المنتقاة للكبار والمشهورين من الكتاب والمبدعين.

ويكاد يتفق محسن جاسم الموسوي مع عبد الله الغذامي حينما يعتبر نظرية السرقات الشعرية وفكرة الطبقية لدى  الجمحي وغيره تكريسا للثقافة المركزية القرشية التي كانت تتحكم بشكل من الأشكال في توجيه متلقي  الشعر العربي، إذ كانت تفرض مجموعة من مقاييس التقبل والاستجابة، وتشترط معايير الاستساغة الجمالية والفنية الصحيحة...
أحدث أقدم

نموذج الاتصال