تختلف مقدمات الدساتير عن إعلانات الحقوق في أنها وثيقة ليست منفصلة عن الدستور، بل إنها جزء متصل به مرت بنفس المراحل التي مر بها وضع الدستور وإصداره. ولذلك فلقد كان من المنطقي أن تكون لهذه المقدمات قوة النصوص الواردة في صلب الوثيقة الدستورية ذاتها.
وعلى الرغم من هذا المنطق فإن الوضع بالنسبة للدستور الفرنسي الصادر سنة 1946 قد أثار الخلاف بين الفقهاء حول القيمة القانونية لمقدمته.
ويرجع الفقه الفرنسي هذا الخلاف إلى أن دستور سنة 1946 قد قصر (بموجب المادة /92/ منه) رقابة اللجنة الدستورية Le Comité constitutionnel صراحةً على الأبواب العشرة الأولى من الدستور، وهي التي تنظم السلطات العامة في الدولة، وهو ما يفيد استبعاد مقدمة الدستور من اختصاص اللجنة الدستورية بالرقابة على مشروعات القوانين.
ولقد ترتب على ذلك أن ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن تلك المقدمة لم تكن في نظر المشرع الدستوري في نفس مرتبة النصوص الواردة في وثيقة الدستور، وبالتالي فلا تلزم البرلمان عند وضع التشريعات.
بينما ذهب البعض الآخر إلى أن مقدمة دستور سنة 1946 لها قوة النصوص الواردة في وثيقة الدستور، لأنها وردت بعد صيغة الإصدار، مما يؤكد أن واضعي الدستور قد أرادوا لها أن تكون في نفس مرتبة نصوص الدستور.
ويؤكد ذلك أيضاً الأهمية التي كان يعلقها واضعي الدستور على المبادئ التي تضمنتها المقدمة، وهو ما ظهر من احتدام الجدل حولها في الجمعية التأسيسية.
ويلاحظ أن القضاء الفرنسي قد اعترف لمقدمة دستور سنة 1946 بالقيمة القانونية، وذلك منذ حكم محكمة السين المدنية الصادر في 22 يناير سنة 1947، حيث قضت المحكمة بإلغاء الشرط الوارد في وصية سيدة إلى حفيدتها بإلغاء هذه الوصية إليها إذا تزوجت من يهودي، استناداً إلى أن هذا الشرط مخالف للفقرة الأولى من مقدمة الدستور التي تؤكد على مبدأ المساواة بين المواطنين.
وأكدت محكمة النقض هذا الاتجاه بحكمها الصادر في 27 مارس سنة 1952، حيث استندت إلى الفقرة السابعة من مقدمة الدستور، وقررت أن إضراب العمال لا يعتبر بذاته سبباً لفسخ عقد العمل.
وانتهى قضاء مجلس الدولة إلى نتائج مماثلة، ومن ذلك حكمه الصادر في 28 مايو سنة 1954، حيث ألغى القرار الصادر باستبعاد بعض المرشحين من مسابقة المدرسة الوطنية للإدارة، بسبب آرائهم السياسية، استناداً إلى الفقرة الخامسة من المقدمة التي تنص على ألا يضار أحد في عمله أو وظيفته بسبب أصله أو آرائه أو معتقداته.
وعلى خلاف دستور سنة 1946، أعطى دستور سنة 1958 للمجلس الدستوري Le Conseil Constitutionnel الاختصاص بالرقابة على دستورية مشروعات القوانين التي تخالف الدستور دون استبعاد المقدمة.
ولذلك استقر الرأي بين الفقهاء الفرنسيين على أن مقدمة دستور سنة 1958 لها قوة الدستور نفسه.
وقد أكَّد المجلس الدستوري الفرنسي هذا الاتجاه في قراره (رقم 71 44 تاريخ 16 تموز 1971) الصادر بخصوص «حرية تكوين الجمعيات» La liberté d'association.
كما أعاد المجلس الدستوري التأكيد على القيمة الدستورية لمقدمة الدستور بقرارات أخرى صدرت عنه في مناسبات عديدة، ومن هذه القرارات نذكر على سبيل المثال القرار (رقم 73 51 تاريخ 27 كانون الأول 1973) الصادر بخصوص «التقدير التحكُّمي (الاعتباطي) للضريبة» Taxation d'office، حيث ذهب المجلس إلى أن البند الأخير للفقرة التي أضيفت بموجب المادة 62 من القانون المالي Loi de finances لسنة 1974 إلى المادة /180/ من قانون الضريبة العام Code général des impôts من شأنه أن يميّز بين المواطنين بالنسبة إلى إمكانية تقديم دليل أو إثبات يناقض preuve contraire قرار الإدارة المتعلق بالتخمين الاعتباطي لمقدار الضريبة (ضريبة الدخل) المفروضة عليهم.
ولهذا فإن البند المذكور أعلاه يقوّض "مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون" الذي ورد في المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في عام 1789، والذي تم إعادة التأكيد عليه رسمياً في مقدمة الدستور.
وبناء عليه، فقد قرَّر المجلس الدستوري عدم مطابقة الأحكام الواردة في المادة /62/ من القانون المالي لسنة 1974 للدستور.
وبذلك يكون المجلس الدستوري الفرنسي قد وضع نهايةً للخلافات التي ثارت حول القيمة القانونية لمقدمات الدساتير في ظل دستور سنة 1946، إذ اعتبر المجلس أن مقدمة دستور سنة 1958 تعتبر جزءاً لا ينفصل عن الدستور ذاته، فهي مكملة ومتممة له، بما يسمح برقابة مدى مطابقة مشروعات القوانين لها.
وبالنسبة للقيمة القانونية لمقدمة الدستور السوري الحالي الصادر عام 1973، فإنها تتمتع بنفس قوة النصوص الواردة في صلب الوثيقة الدستورية.
وهذا مستفاد من نص المادة /150/ من الدستور السوري التي تقول «تعتبر مقدمة هذا الدستور جزءاً لا يتجزأ منه».
وحاصل القول أن مرتبة مقدمات الدساتير تعادل مرتبة الوثيقة الدستورية التي وردت في بدايتها، إذ لا يتصور أن نقسّم ما ورد في وثيقة الدستور من قواعد إلى نوعين أحدهما يأخذ مرتبة أعلى من الآخر.
ويترتب على ذلك، أن المشرع العادي سواء في فرنسا أو سورية لا يستطيع أن يخالف ما ورد في مقدمة الدستور من نصوص وأحكام ومبادئ، فإن هو خالفها أو تجاوزها شاب عمله عيب مخالفة الدستور، وخضع متى انصبت المخالفة على قانون أو لائحة أو مرسوم لرقابة القضاء الدستوري المختص (المجلس الدستوري في فرنسا والمحكمة الدستورية العليا في سورية) بغية الحفاظ على مبادئ الدستور وصون أحكامه من الخروج عليها.
التسميات
قانون دستوري