ذهب جانب ثالث في الفقه يمثله الأستاذ جورج بيردو George Burdeau إلى وجوب التفرقة بين النوعين السابقين من النصوص التي تحظر التعديل، أي بين تلك التي تحظر تعديل بعض أحكام الدستور (الحظر الموضوعي)، وبين تلك التي تحظر تعديل الدستور في بحر مدة معينة (الحظر الزمني)، غير أن أنصار هذا الاتجاه لم يتفقوا على حكم واحد بالنسبة لكل صورة.
فقد ذهب الأستاذ بيردو إلى أن النصوص التي تحظر تعديل بعض أحكام الدستور بصفة دائمة ليست لها أية قيمة قانونية، إذ لا تستطيع السلطة التأسيسية الحالية أن تقيّد السلطة التأسيسية المقبلة، أما بالنسبة للنصوص التي تحظر تعديل الدستور في بحر مدة معينة، فإنها تعد سليمة ومشروعة من الناحية القانونية، ويتعين الالتزام بها واحترامها.
وقد لاقى هذا الرأي ترحيباً لدى بعض الفقه الدستوري في مصر، على أساس أن هذه التفرقة صحيحة ومنطقية، لأنها تفرقة بين صورتين مختلفتين اختلافاً يبرِّر المغايرة في الحكم بينهما.
فالصورة الأولى التي تقضي بمنع التعديل في بعض نصوص الدستور بصفة دائمة تعد مصادرة صريحة وأبدية لإرادة الأجيال القادمة، وهي بذلك تلحق بالجمود المطلق الكلي الذي يتفق الجميع على رفضه، والفارق بين النصوص التي يرفضها الأستاذ بيردو والجمود المطلق الكلي الذي يرفضه الجميع هو فارق في الدرجة فقط.
إذ أن المنع هنا يتعلق ببعض النصوص، والمنع هناك يتعلق بكل النصوص، ولكنه منع أبدي في الحالتين، مما يبرر رفضه باعتباره حَجْرَاً على المستقبل. أما الصورة الثانية التي تضع حاجزاً زمنياً معيناً لا يجوز التعديل أثناءه، والتي تعد سليمة طبقاً لهذه التفرقة، فلا فارق بينها وبين أن يقال أنه يجب أن تمضي ستة اشهر مثلاً بين إبداء الرغبة في التعديل والتصويت على التعديل.
والكل يجمع على أنه لا غبار على مثل ذلك الاشتراط، حتى أن أحداً لم يناقش سلامته القانونية ويأخذه الكل مأخذ القبول، بل إن البعض يتطلبه حتى يمكن مناقشة النصوص المراد تعديلها برويّة.
غير أن البعض الآخر من الفقه المصري قد أخذ برأي مخالف، إذ يسلّم بمشروعية النص على حظر تعديل بعض أحكام الدستور، بينما لا يعترف بأية قيمة قانونية للنصوص التي تمنع تعديل الدستور في بحر مدة معينة، وبمعنى آخر إنه أجاز ما رفضه بيردو، ورفض ما أجازه "بيردو" في شأن حظر التعديل.
ومن جانبنا فإننا نعتقد مع البعض أنه لا يوجد أي مبرر منطقي أو سند قانوني لهذه التفرقة بين نوعَيْ أو صورتَيْ الحظر من حيث تحديد قيمتها القانونية، ولا يمكن إلا أن نسوّي بين الصورتين في الحكم.
فإذا كان صحيحاً أن مبدأ سيادة الأمة وعدم جواز تقييد السلطة التأسيسية في جيل معين للسلطة التأسيسية في الأجيال القادمة لا يتفق مع الحظر الموضوعي، فإنه لا يتفق أيضاً مع الحظر الزمني.
وبمعنى آخر إذا كان من شأن المبدأ المذكور أن يبطل النص الذي يمنع تعديل بعض أحكام الدستور، فإنه يبطل أيضاً النصوص التي تحظر تعديل الدستور خلال مدة معينة.
وعلى العكس من ذلك، إذا كان صحيحاً أن الأمة لا تمارس سلطاتها إلا وفقاً للطريقة المبينة في الدستور، وأنها لا تستطيع تعديل دستورها إلا بإتباع الإجراءات وفي نطاق الحدود التي رسمها الدستور، وأنه تبعاً لذلك تكون للنصوص التي تحظر تعديل الدستور قيمة قانونية ملزمة، فإن ذلك يصدق سواء بالنسبة للنصوص التي تحظر تعديل الدستور خلال مدة معينة، أو بالنسبة للنصوص التي تمنع من تعديل أحكام معينة من الدستور.
فالحكم لا يمكن إلا أن يكون واحداً بالنسبة للصورتين، فإما أن نقول بأن الحظر مشروع وسليم في الصورتين، وإما أن نقول بعدم جواز حظر التعديل إطلاقاً.
ونتيجةً لذلك، نرى مع البعض أنه لا يمكن الخروج عن أحد رأيين: الرأي القائل بعدم مشروعية النصوص التي تحظر تعديل الدستور (الرأي الأول) أو الرأي القائل بأن هذه النصوص مشروعة وتكون لها قيمتها القانونية طالما بقي الدستور قائماً لم يسقط بالثورة أو يعدّل بالانقلاب (الرأي الثاني).
والحقيقة أن لكل من الرأيين وجاهته، وكلاهما يستند إلى حجج منطقية معقولة، غير أن واقع الحياة السياسية لا يقف كثيراً عند الاعتبارات القانونية وحدها، ولا يتشكل بما تمليه هذه الحجة أو تلك من الحجج المنطقية التي يستند إليها الفقهاء.
وسواء قلنا بسلامة النصوص الدستورية المانعة من تعديل الدستور، أو قلنا بأنها غير قانونية، فإن قيمتها الفعلية تتوقف على مدى تجاوبها مع حاجات الجماعة واتفاقها مع ما تمليه إرادة القوى الغالبة فيها.
فإذا ما فقدت هذه النصوص تأييد الجماعة أو تزعزع إيمانها بأحكامها، فلن يُجدي كثيراً الاعتراف لها بقيمة قانونية ملزمة، ولن يحول هذا الاعتراف دون تعديلها.
كما أن القول بعدم مشروعيتها لن يؤدي إلى تعديلها قبل أن يستقر في ضمير الجماعة ويسود الاعتقاد في ضرورة إجراء هذا التعديل.
ومع ذلك، فإننا نعتقد أن الرأي الثاني الذي يعترف للنصوص التي تحظر تعديل الدستور بالقيمة القانونية طالما بقي الدستور قائماً لم يسقط بالثورة أو يعدَّل بالانقلاب يعدّ أكثر اتفاقاً مع ما سبق أن انتهينا إليه مع غالبية الفقهاء من أن تعديل الدستور يجب أن يتم وفقاً للإجراءات والأوضاع التي نص عليها الدستور وفي نطاق الحدود التي رسمها.
وحاصل القول أن النصوص المانعة من التعديل في صورتيها، تتمتع بالقوة القانونية الملزمة طيلة نفاذ الدستور، فلا يجوز إجراء أي تعديل على تلك الأحكام.
وإن حصل اقتراح التعديل رغم تلك النصوص وفي فترة نفاذ الدستور، فإنه يكون مجرداً من أي سند قانوني.
التسميات
قانون دستوري