السلطان عبد الحميد الثاني: حارس الإمبراطورية المتداعية.. تحديات حكمه، سياساته الإصلاحية، وصراعه مع القوى الاستعمارية والحركات القومية (1876-1909)

السلطان عبد الحميد الثاني: آخر سلاطين الدولة العثمانية المؤثرين في عصر التحديات الكبرى

يُعدّ السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م)، الخليفة الرابع والثلاثون للدولة العثمانية والوريث الأخير لسلطة فعلية فيها، شخصية محورية ومعقدة في تاريخ الدولة العثمانية الحديث. حكم في فترة بالغة الصعوبة (1876-1909م)، شهدت فيها الدولة أوج ضعفها وتكالب القوى الاستعمارية الأوروبية عليها، بالإضافة إلى تصاعد الحركات القومية الداخلية. يُنظر إليه كقائد حاول جاهداً الحفاظ على وحدة وتماسك الإمبراطورية المتهالكة، بينما يرى آخرون في حكمه استبداداً وعائقاً أمام الإصلاحات الدستورية.

نشأة وتولي العرش: في عين العاصفة

وُلد عبد الحميد الثاني في 21 سبتمبر 1842م بإسطنبول. نشأ في كنف البلاط العثماني، وتلقى تعليماً جيداً، حيث كان يجيد عدة لغات. عُرف عنه منذ صغره انطواؤه وذكاؤه، واهتمامه بالتجارة والاستثمار، مما جعله في وضع مالي مستقل عن باقي أمراء القصر. هذه الخلفية منحته نظرة عملية ومختلفة عن إخوته.

تولى عبد الحميد الثاني الحكم في 31 أغسطس 1876م، خلفاً لعمه السلطان عبد العزيز وأخيه السلطان مراد الخامس، في ظروف سياسية واقتصادية مضطربة للغاية. كانت الدولة العثمانية تُعرف بـ "الرجل المريض" في أوروبا، وتواجه ضغوطاً هائلة من القوى الغربية الطامعة في أراضيها، وثورات قومية في البلقان، وأزمة مالية خانقة. لم يكن عبد الحميد الثاني هو الوريث الأول للعرش، لكن التقلبات السياسية والاضطرابات أدت إلى وصوله للسلطة في سن الرابعة والثلاثين.

تحديات حكم السلطان عبد الحميد الثاني: جبهات متعددة

واجه السلطان عبد الحميد الثاني تحديات غير مسبوقة على جبهات داخلية وخارجية متعددة، فرضت عليه سياسة حذرة ومتوازنة:

1. التحديات الداخلية:

  • الاضطرابات الدستورية وحركة "الأتراك الشباب": في بداية عهده، أُجبر عبد الحميد على إعلان الدستور العثماني عام 1876م (المشروطية الأولى) وتشكيل برلمان (مجلس المبعوثان) استجابة لمطالب حركة "العثمانيين الشباب" التي كانت تطالب بالإصلاح وتقييد السلطة المطلقة للسلطان. ومع ذلك، سرعان ما عطل السلطان الدستور وأعاد الحكم الفردي بعد عامين (1878م)، مبرراً ذلك بحالة الحرب والفوضى. هذا الإجراء أدى إلى تصاعد المعارضة ضده، خاصة من قبل حركة "الاتحاد والترقي" (الأتراك الشباب) التي سعت إلى استعادة الدستور.
  • الديون المتراكمة والأزمة المالية: كانت الدولة العثمانية غارقة في الديون الخارجية، مما أدى إلى فرض رقابة دولية على ماليتها عبر "إدارة الديون العثمانية". حاول السلطان ترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات، لكن الأزمة كانت أعمق من مجرد حلول مالية تقليدية.
  • النزعات الانفصالية القومية: كانت الإمبراطورية متعددة الأعراق والأديان، وشهدت صعوداً قوياً للنزعات القومية في البلقان (صربيا، بلغاريا، اليونان، رومانيا) وفي المناطق العربية والأرمنية. هذه الحركات، التي كانت غالباً ما تحظى بدعم القوى الأوروبية، هددت وحدة الدولة وتماسها.
  • الفساد الإداري والتخلف: كانت هناك حاجة ماسة لإصلاحات إدارية وعسكرية وتعليمية لمواكبة التطورات العالمية.

2. التحديات الخارجية:

  • أطماع الدول الأوروبية الاستعمارية: كانت القوى الكبرى (بريطانيا، فرنسا، روسيا، ألمانيا، النمسا-المجر، إيطاليا) تتسابق لتقسيم "الرجل المريض" والاستيلاء على أراضيه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبلقان.
  • الحروب والخسائر الإقليمية: خاضت الدولة العثمانية في عهده الحرب الروسية العثمانية (1877-1878م) التي انتهت بهزيمة قاسية وتوقيع معاهدة سان ستيفانو ثم مؤتمر برلين (1878م)، مما أدى إلى خسارة مساحات واسعة في البلقان، ووضع البوسنة والهرسك تحت إدارة النمسا، ومنح قبرص لبريطانيا، وتونس لفرنسا، ومصر لبريطانيا.
  • التهديد الصهيوني لفلسطين: واجه السلطان عبد الحميد الثاني ضغوطاً شديدة من الحركة الصهيونية لشراء أراضٍ في فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود. رفض السلطان هذه المطالب بشدة، واعتبر فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الإسلامية. تُنسب إليه مقولته الشهيرة: "لن أفرط بشبر واحد من أرض فلسطين".

سياسات السلطان وإنجازاته: محاولة إنقاذ الإمبراطورية

في مواجهة هذه التحديات، اتبع السلطان عبد الحميد الثاني سياسات داخلية وخارجية تهدف إلى الحفاظ على الدولة وإصلاحها:

1. السياسة الداخلية والإصلاحات:

  • الإصلاحات الإدارية والعسكرية: سعى إلى تحديث الجيش العثماني، وأسس مدارس عسكرية حديثة. كما حاول تنظيم الإدارة وتقليل الفساد.
  • تطوير التعليم: أولى السلطان اهتماماً كبيراً بالتعليم كأداة للنهضة. افتتح آلاف المدارس الابتدائية الحديثة، ومدارس عليا في مجالات الهندسة والطب والزراعة، ومدرسة للفنون الجميلة. كما شجع الترجمة وأرسل بعثات طلابية إلى أوروبا.
  • البنية التحتية: شهد عهده طفرة في مشاريع البنية التحتية، أبرزها:
  1. مد سكة حديد الحجاز: وهو مشروع ضخم ربط دمشق بالمدينة المنورة، وكان يهدف إلى تسهيل نقل الحجاج والجيوش، وتعزيز الروابط بين أقاليم الدولة الإسلامية.
  2. إنشاء محطات قطار مثل سيركجي وحيدر باشا.
  3. تطوير شبكات البريد والبرق، وإنشاء بريد المدن.
  4. تأسيس مستشفيات حديثة مثل مستشفى الأطفال في شيشلي، ودار العجزة.
  • الجامعة الإسلامية: دعا إلى فكرة "الجامعة الإسلامية" (Pan-Islamism) كإطار يجمع المسلمين تحت راية الخلافة، لمواجهة الأطماع الأوروبية والحركات القومية. سعى إلى تعزيز الروابط بين المسلمين في أرجاء العالم، وزار شخصيات إسلامية بارزة مثل جمال الدين الأفغاني (وإن كانت العلاقة قد توترت لاحقاً).
  • الاستقرار الأمني: فرض نظاماً بوليسياً قوياً ومخابرات واسعة النطاق لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وهو ما انتقده خصومه واعتبروه استبداداً.

2. السياسة الخارجية:

سياسة الموازنة: اتبع سياسة حذرة تقوم على الموازنة بين القوى الأوروبية الكبرى، محاولاً الاستفادة من تناقضات مصالحها لتجنب تفكيك الدولة. سعى إلى التقارب مع ألمانيا كمنافس لبريطانيا وفرنسا.
حماية الأراضي المقدسة: أظهر صرامة كبيرة في مسألة فلسطين، ورفض كل العروض الصهيونية لشراء الأراضي.

انقلاب 1908 وخلع السلطان: نهاية حقبة

رغم جهوده، فإن السياسات القمعية، والجمود السياسي، وتصاعد المد القومي، ورفض مطالب الإصلاح الدستوري التي نادى بها "الاتحاديون"، أدت إلى تزايد السخط. في يوليو 1908م، قامت حركة "تركيا الفتاة" (جمعية الاتحاد والترقي) بانقلاب عسكري، أجبرت فيه السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بالدستور وإجراء انتخابات برلمانية (المشروطية الثانية).

لم تستمر سلطة عبد الحميد طويلاً بعد ذلك. ففي 27 أبريل 1909م، وبعد حادثة عرفت بـ "حادثة 31 مارس" (وهي محاولة انقلاب مضاد من قبل مؤيدي السلطان)، قامت جمعية الاتحاد والترقي بخلع السلطان عبد الحميد الثاني رسمياً، وتعيين أخيه محمد الخامس خلفاً له. وُضع عبد الحميد تحت الإقامة الجبرية في سالونيك، ثم نُقل إلى إسطنبول، حيث توفي في 10 فبراير 1918م، قبل نهاية الحرب العالمية الأولى التي شهدت انهيار دولته.

إرث السلطان عبد الحميد الثاني: جدل تاريخي

لا يزال إرث السلطان عبد الحميد الثاني محل جدل واسع بين المؤرخين والباحثين. يرى البعض أنه كان حاكماً مستبداً عطل الإصلاحات الدستورية وقمع الحريات، مما أخر تقدم الدولة العثمانية. بينما يرى آخرون أنه كان زعيماً حكيماً، عمل بجد لحماية الدولة من الانهيار في فترة حرجة للغاية، وأن سياساته كانت ضرورية للحفاظ على وجود الدولة في وجه المؤامرات الخارجية والداخلية. مهما تباينت الآراء، فمن المؤكد أن فترة حكمه كانت إحدى أكثر الفترات تأثيراً في مسار الدولة العثمانية، وأن سياساته تركت بصمات عميقة على تاريخ تركيا والمنطقة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال