ظلّت الجهود الروائية للشعر الجاهلي في هذا العصر قوية نشطة، على الرغم من انشغال المسلمين بالفتوحات الإسلامية، وبقيم الدين الجديد، خلافا لما ذهب إليه ابن سلاّم.
فالرسول، وهو أفصح العرب، كان يتذوق الكلام الجيد، ويخوض في حديث الشعر مع الوافدين عليه ممن أسلموا، كما كان يؤثر منه ما لاءم دعوته، وأرضى مكارم الأخلاق.
فقد أنشده النابغة الجعدي، فأعجب الرسول بجودة شعره، وقال له: "أجدت لا يفضض الله فاك".
وأنشده كعب بن زهير قصيدته المشهورة "بانت سعاد" فأعجب بها الرسول، وبلغ من إعجابه بها أن صفح عن كعب، وخلع عليه بردته.
ولا خير في حلم إذا لم يكن له -- بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له -- حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقد أثر عن الرسول الكريم ما يُعبّر عن مفهومه للشعر، فمن ذلك قوله: "إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه".
كذلك أبدى الرسول الكريم رأيه فيمن هو أشعر شعراء الجاهلية والمشركين.
فقد روي عنه قوله في امرئ القيس "أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار. وكان -عليه السلام - يعجب بقول عنترة :
ولقد أبيت على الطوى وأظله -- حتى أنال به كريم المأكل
ولقد أبيت على الطوى وأظله -- حتى أنال به كريم المأكل
ويقول: "ما وصف لي أعرابيّ قط فأحببت أن أراه إلا عنترة".
ويسمع -عليه السلام- قول لبيد بن ربيعة..
ألا كل شيء ما خلا الله باطل -- وكل نعيم لا محالة زائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل -- وكل نعيم لا محالة زائل
فيقول -عليه السلام- أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد.. وكان يستنشد أصحابه من شعر أمية بن أبي الصلت، وكان يقول:
آمن قلبه وكفر لسانه.
وكان - عليه السلام - إذا استراث خبرا تمثل بعجُزِ بيت طرفه
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا -- ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أما الخلفاء الراشدون، وسائر الصحابة، فقد كانوا يتناشدون الأشعار ويروونها، ما دامت هذه الأشعار منسجمة مع قيم الدين الجديد. فسيدنا عمر بن الخطاب يحث المسلمين على تلقين أبنائهم أسير الأمثال وأحسن الشعر وأعفّه.
وفي حياة عمر مواقف كثيرة تؤكد أن أقواله المأثورة عن الشعر كانت تنبع من قيمه الإنسانية، ومعرفته بأثر الشعر في النفوس الكريمة.
وكل أحكام عمر النقدية تشير إلى أنه كان يقدر الشعر ويقيسه بمقياس الرسول، فقد كان يفضل الشعر الذي يجمع بين القيم الأخلاقية والمتعة الأدبية.
وعندما اتجه المسلمون إلى تفسير القرآن الكريم شعروا بحاجتهم إلى الشعر قال ابن عباس: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله، فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب". وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا.
ويدل الاستقراء التاريخي على أن "رواية الشعر الجاهلي كانت مستمرة في صـدر الإسـلام، وقد أخذت تظهر عوامل جديدة تشد من أزرها وتقوي من شأنها".
التسميات
رواية الشعر الجاهلي