استقلالية القانون الإداري في الإمارات: تبيان تجذر قواعده ومبادئه رغم غياب قضاء إداري منفصل، ودور التشريع والقضاء العادي في تأصيله

القانون الإداري في الإمارات:

يُلاحظ أنَّ وجود قانون إداري مستقل في دولة الإمارات العربية المتحدة ليس مرهونًا بوجود قضاء إداري منفصل تمامًا عن القضاء العادي. على الرغم من أنَّ النظام القضائي الإماراتي لا يعتمد على محاكم إدارية مستقلة بذاتها كما هو الحال في بعض الدول الأخرى، إلا أنَّ القضاء العادي بدوائره الإدارية يقوم بتطبيق مبادئ وقواعد القانون الإداري بفاعلية في مختلف المنازعات التي تكون الإدارة طرفًا فيها. هذا الفصل بين القانون الإداري كفرع مستقل في المنظومة القانونية، وبين القضاء الإداري كجهة قضائية متخصصة، هو سمة مميزة للنظام الإماراتي.

استقلالية القانون الإداري عن قواعد القانون الخاص في الإمارات:

تكتسب القواعد الإدارية في الإمارات استقلاليتها عن قواعد القانون الخاص (التي تُعرف بـ "الشريعة العامة" في سياق القانون المدني والتجاري) من خلال عدة آليات ومظاهر رئيسية:

1. التدخل التشريعي الواسع لتنظيم المسائل الإدارية:

أول مظهر من مظاهر استقلالية القانون الإداري في الإمارات يتمثل في التدخل التشريعي الصريح والمكثف من قبل المشرع لتنظيم العديد من الموضوعات ذات الطابع الإداري. هذه التشريعات تضع قواعد خاصة تحكم عمل الجهات الإدارية وعلاقاتها بالأفراد، وتختلف في طبيعتها وهدفها عن القواعد التي تنظم العلاقات بين الأفراد. ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
  • قوانين الخدمة المدنية: هذه القوانين تنظم جميع جوانب العلاقة بين الموظفين والإدارة، من التعيين والترقية إلى الواجبات والمسؤوليات والعقوبات التأديبية، وتختلف جوهريًا عن عقود العمل في القطاع الخاص.
  • قوانين الكادرات الخاصة: تشمل هذه القوانين فئات وظيفية محددة مثل الكادر الطبي أو التعليمي أو القضائي، وتضع لهم أنظمة خاصة تتناسب مع طبيعة عملهم.
  • لوائح شراء المواد والمقاولات الحكومية: هذه اللوائح تضع إطارًا صارمًا وشفافًا لعمليات الشراء والتعاقد التي تقوم بها الجهات الحكومية، وتختلف عن قواعد العقود المدنية في التركيز على مبادئ مثل المساواة والشفافية والمصلحة العامة.
  • لوائح الأشغال العامة: تنظم هذه اللوائح المشروعات الإنشائية الكبرى التي تنفذها الدولة، وتضع قواعد خاصة للمناقصات والإشراف على التنفيذ والتسليم.
  • قوانين البلديات والوزارات والهيئات الحكومية: تحدد هذه القوانين اختصاصات وصلاحيات كل جهة إدارية، وتنظم هيكلها الداخلي.
هذه القوانين واللوائح تشكل ركيزة أساسية للقانون الإداري وتؤكد على وجود منظومة قانونية متخصصة تحكم النشاط الإداري.

2. تطبيق القضاء العادي للمبادئ والنظريات الإدارية المستقلة:

على الرغم من عدم وجود محاكم إدارية منفصلة، إلا أنَّ القضاء العادي في الإمارات، وتحديداً الدوائر المخصصة للنظر في المنازعات الإدارية، قد طبق منذ سنوات عديدة العديد من المبادئ والنظريات والقواعد الإدارية الأساسية التي تشكل جوهر القانون الإداري في الدول التي تعتمد قضاءً إداريًا مستقلًا، مثل فرنسا ومصر. هذا التطبيق القضائي يساهم في بناء الفقه القضائي الإداري وتأصيله في النظام القانوني الإماراتي. من أمثلة هذه المبادئ والنظريات:
  • نظرية القرار الإداري: التي تحدد أركان القرار الإداري وشروط صحته وآثار بطلانه.
  • نظرية المسؤولية الإدارية: التي تحدد قواعد مسؤولية الإدارة عن الأضرار التي تسببها أعمالها، وتختلف عن قواعد المسؤولية المدنية في أنها قد تقوم على أساس الخطأ المفترض أو حتى بدون خطأ (المسؤولية على أساس المخاطر).
  • مبدأ المشروعية: وهو جوهر القانون الإداري، ويعني خضوع الإدارة للقانون في جميع تصرفاتها.
  • نظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة: التي تسمح بتعديل العقود الإدارية أو إنهائها في ظروف استثنائية.
  • سحب القرار الإداري وإلغائه: وهي قواعد خاصة تنظم متى وكيف يمكن للإدارة سحب قراراتها أو إلغائها.
  • مبدأ التناسب: الذي يتطلب أن تكون الإجراءات الإدارية متناسبة مع الهدف المراد تحقيقه.
هذه المبادئ، التي طوّرتها واجتهدت فيها المحاكم الإدارية في دول أخرى، تُطبق وتُكيف في السياق الإماراتي لتشكل منظومة قضائية إدارية متكاملة.

3. النص الدستوري على اختصاص القضاء الإداري:

يعزز وجود القانون الإداري في الإمارات المادة (102) من الدستور الاتحادي لسنة 1971م. هذه المادة نصت بوضوح على قيام محكمة اتحادية أو أكثر، وجعلت من اختصاصها الفصل في المنازعات الإدارية بين الاتحاد والأفراد. هذا النص الدستوري يُعد بمثابة سند قوي لوجود اختصاص قضائي متخصص في المنازعات الإدارية، حتى لو لم يتم تأسيس محاكم إدارية مستقلة بشكل كامل في جميع مستويات التقاضي. إنه يؤسس لمبدأ الرقابة القضائية على أعمال الإدارة ويؤكد على ضرورة وجود آليات للفصل في هذه المنازعات بما يتوافق مع مبادئ القانون الإداري.

خلاصة:

إنَّ وجود قانون إداري مستقل في دولة الإمارات العربية المتحدة هو حقيقة راسخة، مدعومة بالتشريعات المتخصصة، والاجتهادات القضائية الواسعة التي تطبق المبادئ الإدارية، والنص الدستوري الذي يؤسس لاختصاص قضائي في المنازعات الإدارية. هذا يضمن أنَّ تصرفات الإدارة في الدولة تخضع لرقابة قانونية فعالة، مما يعزز مبدأ المشروعية ويحمي حقوق الأفراد، حتى في غياب هيئات قضائية إدارية منفصلة تمامًا.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال