تطور مدلول القانون الدستوري والحقوق الدستورية.. تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم والتوفيق بين السلطة والحرية



لا شك في أن قيام الجماعة السياسية المنظمة يفترض وجود دستور لها يحدد القواعد التي تحكم حياتها وتنظم سيرها؛ فوجود الدستور ظاهرة عامة تتحقق في كل جماعة لها طابع النظام والاستقرار، وتسير على مقتضى قواعد وسنن منضبطة.

ويبدو من ذلك أن وجود الدستور قد ارتبط بوجود المجتمع السياسي منذ القدم، فكل مجتمع سياسي يخضع ـ أياً كان نوعه ـ لنظام سياسي معين، يوضح نظام الحكم فيه، وينظم بالتالي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، موفقاً في ذلك بين السلطة والحرية.

غير أن التاريخ يحدثنا أن الظاهرة الدستورية ظاهرة حديثة، وأن اصطلاح "القانون الدستوري" لم يكن معروفاً في كثير من الدول المتمدنة حتى أوائل القرن التاسع عشر.

ولئن كانت الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية قد قررت في 26 سبتمبر/أيلول سنة 1791 وجوب تدريس مادة الدستور الفرنسي على طلبة كليات الحقوق، فإن قرارها لم يكتب له التطبيق والنفاذ إلا بعد حين.

فلم ينشأ كرسي القانون العام في كلية الحقوق إلا في سنة 1819، ثم أنشئ كرسي القانون الدستوري في سنة 1834 على يد "جيزو" Guizot الذي كان وزيراً للتعليم في عهد حكومة الملك لويس فيليب، فكان أول كرسي للقانون الدستوري في كلية الحقوق بجامعة باريس.

وقد كان أول أستاذ شغل هذا الكرسي هو الأستاذ "بلغرينو روسي" Pellegrino Rossi الإيطالي الأصل، والذي درَس في جامعة بولوني بإيطاليا، حيث كان القانون الدستوري يدرّس منذ زمن طويل.

غير أن هذا الكرسي لم يكتب له البقاء طويلاً، حيث ألغي مع قيام الإمبراطورية الفرنسية الثانية بزعامة لويس نابليون سنة 1852، واستبدل به "كرسي القانون العام"، حيث امتزجت فيه الدراسات الدستورية والإدارية معاً.

إلا أنه مع قيام الجمهورية الثالثة في سنة 1875، عاد اصطلاح القانون الدستوري إلى الظهور مرة أخرى كمادة مستقلة، وتقرر تدريسه في قسم الدكتوراه عام 1882، وفي قسم الليسانس عام 1889، ومنذ ذلك التاريخ استقر اصطلاح القانون الدستوري في الجامعات الفرنسية.

ومن فرنسا انتقلت تسمية "القانون الدستوري" إلى بقية الجامعات في العالم وبصورة خاصة جامعات البلاد اللاتينية، ومنها الجامعات المصرية، ومن مصر انتشرت التسمية في بقية جامعات الوطن العربي.

وقد كان السائد في كلية الحقوق السوريـة حتى عام 1964 استخدام مصطلح ﴿الحقوق الدستورية﴾ إلى أن عُهِد في ذلك العام إلى الأستاذ الدكتور كمال الغالي بتدريس هذه المادة، فآثر استخدام تعبير ﴿القانون الدستوري﴾ حرصاً على وحدة المصطلحات القانونية العربية.

وعلى الرغم من أن اصطلاح "القانون الدستوري" حديث النشأة، حيث يرجع استخدامه إلى تاريخٍ حديثٍ نسبياً، ناهيك عن شيوع هذا الاصطلاح في الوقت الحاضر بين الدراسات القانونية، إلا الفقهاء لم يتفقوا على تحديد الموضوعات التي تدخل في نطاق هذا الاصطلاح، نظراً لاختلافهم في تعريفه.

ويرجع الخلاف بين الفقهاء في تعريف القانون الدستوري إلى اختلاف الزاوية التي ينظر إليها كل منهم، فمن الفقهاء من يعتمد على المدلول اللغوي للاصطلاح، ومنهم من يعتمد على المدلول الشكلي، خاصة بعد حركة تدوين الدساتير، ومنهم من يتخذ من المدلول الموضوعي أساساً يستند إليه في تعريف القانون الدستوري.


0 تعليقات:

إرسال تعليق