التربية في رؤية اليونسكو: من عملية التلقين إلى التنمية الشاملة للذات والمجتمع في سياق الحياة الاجتماعية المتكاملة

تعريف التربية من منظور اليونسكو: رؤية شاملة ومتكاملة

تُقدم اليونسكو، من خلال تعريفها للتربية في مؤتمرها بباريس، رؤية عميقة وواسعة تتجاوز المفاهيم التقليدية للتعليم. إنها ليست مجرد عملية تلقين للمعلومات أو اكتساب للمهارات، بل هي "مجموع عملية الحياة الاجتماعية" التي تهدف إلى تنمية شاملة للفرد والمجتمع على حد سواء.

التربية كعملية حياة اجتماعية متكاملة:

يُشدد تعريف اليونسكو على أن التربية جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. إنها تحدث باستمرار ضمن التفاعلات اليومية للأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم المحلية، ومن ثم تتسع لتشمل السياق الدولي. هذا يعني أن التربية ليست محصورة داخل جدران المدارس أو الجامعات، بل هي عملية مستمرة تبدأ من لحظة الولادة وتستمر مدى الحياة، متأثرة بكل ما يحيط بالفرد من بيئة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية.

التنمية الواعية والمتكاملة للقدرات:

الهدف الأساسي من هذه العملية الاجتماعية هو أن يتعلم الأفراد والجماعات، "وبوعي منهم"، أن ينموا كافة قدراتهم الشخصية، اتجاهاتهم، استعداداتهم، ومعارفهم. هذا التأكيد على "الوعي" بالغ الأهمية؛ فالتربية الحقيقية لا تهدف إلى التلقي السلبي، بل إلى التفكير النقدي، والتحليل، واتخاذ القرارات الواعية. تتضمن هذه التنمية الشاملة:
  • القدرات الشخصية: تشمل القدرات الفكرية مثل التفكير الإبداعي وحل المشكلات، والقدرات البدنية، والقدرات العاطفية مثل الذكاء العاطفي والمرونة النفسية.
  • الاتجاهات: تُشير إلى القيم والمعتقدات والمبادئ التي توجه سلوك الفرد وتفاعلاته مع العالم، مثل احترام التنوع، والعدالة الاجتماعية، والمسؤولية البيئية.
  • الاستعدادات: تتعلق بالميول والمواهب الكامنة التي يمكن صقلها وتطويرها، مما يمكن الأفراد من تحقيق إمكاناتهم الكاملة والمساهمة بفعالية في مجتمعاتهم.
  • المعارف: لا تقتصر على الحقائق والمعلومات الأكاديمية، بل تشمل الفهم العميق للعالم المحيط، والثقافات المختلفة، والتحديات العالمية، وكيفية التعامل معها.

التربية لصالح المجتمعات الوطنية والدولية:

يُبرز التعريف أن هذه العملية التنموية ليست فردية بحتة، بل هي موجهة "لصالح مجتمعاتهم الوطنية والدولية". هذا يوضح البعد الاجتماعي والأخلاقي للتربية، حيث تهدف إلى إعداد أفراد ومواطنين قادرين على المساهمة الإيجابية في بناء مجتمعاتهم المحلية وتعزيز التفاهم والتعاون على المستوى العالمي. التربية بهذا المعنى هي أداة لتحقيق التنمية المستدامة، وبناء السلام، وتعزيز حقوق الإنسان.

شمولية الأنشطة التربوية:

يختتم التعريف بعبارة حاسمة: "هذه العملية لا تقتصر على أنشطة بعينها". هذه العبارة تؤكد على الشمولية والتنوع في مصادر وأشكال التربية. فالتربية تحدث في:
  • التعليم الرسمي: المدارس، الجامعات، والمعاهد المتخصصة.
  • التعليم غير الرسمي: الأنشطة الشبابية، البرامج المجتمعية، التعلم مدى الحياة.
  • التعليم اللاصفي: التفاعلات الأسرية، الخبرات اليومية، وسائل الإعلام، الفنون، الرياضة، والتعلم من الأقران.

خلاصة:

هذا الفهم الواسع للتربية يدعو إلى نهج متكامل يدمج كافة هذه الأبعاد والأنشطة، ويُقر بأن التعلم يمكن أن يحدث في أي مكان وزمان، طالما أنه يسهم في التنمية الواعية والشاملة للأفراد والجماعات.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال