المكنة السابقة لعلم التوجيه.. الاشتراكية لم تؤد إلى غزارة الإنتاج ولا إلى المساواة، ولا إلى الحرية ولكنها أدت إلى نظام الحزب الواحد

بغض النظر عن بعض الإستثناءات القليلة، يمكن القول: إن الاشتراكية لم تؤد إلى غزارة الإنتاج، ولا إلى المساواة، ولا إلى الحرية. ولكنها أدت إلى نظام الحزب الواحد، والبيروقراطية الكثيفة، و شرطة سرّية عوجاء، ومراقبة حكومية عنيفة لوسائل الإعلام، والاحتفاظ بسر أو أسرار الحكم، وقمع الحرية الفكرية والفنية.

وإذا تركنا جانباً أنهار الدم التي أُريقت من أجل إقامة هذا النظام، ودعمه وضمان استقراره، فإن نظرة سريعة إليه تكشف عن أن كل عنصر من هذه العناصر، ليس مجرد طريقة لتنظيم حياة الأفراد، بل- وبصورة أكثر عمقاً، بل هو صورةً لتنظيم المعرفة، وتقنينها، والرقابة عليها.

إن وظيفة النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، هو مراقبة الاتصالات السياسية، ولما لم يكن هنالك من حزب آخر، فإنه (أي النظام) يضيّق من تنوّع الإعلام السياسي الذي يتداول في المجتمع، ويكون حائلاً دون الأثر الإرتجاعي retroaetion، ومعمياً أولئك الذين يحتلون مراكز السلطة.. عن تعقيد المشاكل.

ومنذئذٍ يصبح من الصعب جداً على النظام أن يلاحظ الأخطاء أو أن يُصَحّحها بمقدار ما يصعد فيه الإعلام- المتطابق بين مختلف عناصره- من القاعدة إلى القمة، بالطرق الوحيدة المرخَص بها، وبمقدار ما تنزل الأوامر، بنفس الطرق.

وكانت الرقابة، من فوق إلى تحت- المعمول بها في البلاد الاشتراكية، تقوم على الكذب، وتشويه الإعلام، أو منعه. وذلك لأنه كان من أعسر الأشياء وأخطرها، نقل أخبار سيئة، فإذا نحن اخترنا أن نُحكم تبعاً لنظام الحزب الواحد، فهذا يعني في الواقع، أن نتخذ كل القرارات في شأن المعرفة. ثم إن البيروقراطية الساحقة التي أقامتها الاشتراكية في كل حلقة من حلقات الحياة. كانت وسيلة للتضييق على المعرفة.

وكانت هذه البيروقراطية، تحبسها في جيوب معينة سلفاً، وتضيق الخناق على الاتصالات، بحيث تقصرها على "طرق رسمية" جاعلة كل اتصال، وكل تنظيم إعلامي، شيئاً غير مشروع.

فالشرطة السرّية، ووضع يد الدولة على وسائل الإعلام، وإرهاب المفكرين، وقمع الحريات الفنية، كانت من بعض المحاولات الكثيرة للحد من الإعلام، وفرض الرقابة عليه ويستند كل واحد من هذه العناصر إلى موضوعةٍ وحيدة مهترئة ومتجاوَزة- حول المعرفة. وهي موضوعة توحي بالرأي المتعجرف الذي يرى أن أولئك الذين يملكون السلطة-  من حقهم أن يعرفوا ما يجب على الآخرين أن يعرفوه.

وكانت هذه الخصائص المشتركة بين كل البلاد الاشتراكية، تنشأ عن مفهوم المكنة السابقة للتوجيه(1)، على نحو ما كان مطبّقاً على المجتمع، والحياة معاً، وكانت تضمن، في الاقتصاد، غباءاً ظاهراً.

وكانت مكنات الموجة الثانية،، تماماً كتلك التي كانت جزءاً من عالم ماركس في القرن التاسع عشر- تعمل، في أغلبيتها من دون أي مفعول رجعي. وكأنما يقال للعمال: حركوها؛ أشعلوا المحرك، وتبدأ هي، عندئذٍ، عملها دون أيِّ حساب لما يجري في محيطها الخارجي.

وبالمقابل، فإن مكنات الموجة الثالثة، ذكية. فهي مجهزة بلواقط تعترض الإعلام من المحيط، وتلاحظ التغيرات الحاصلة، وتتلاءم معها بالنتيجة. إنها تنظم نفسها بنفسها. وهكذا يكون الفارق بينها وبين سابقاتها، فارقاً ثورياً.

وكان المنظّرون الماركسيون، تماماً كما تكشف عن ذلك مصطلحاتهم، يظلون متعثرين. بماضي الموجة الثانية، غائصين فيها. وهكذا فإن الصراع الطبقي كان يُمثل بالنسبة للاشتراكيين الماركسيين "قاطرة التاريخ". كانت إحدى المهام الأساسية لديهم أن يضعوا اليد على"مكنة الدولة"، وحتى على المجتمع نفسه، كأنه مكنة تماماً، يمكن أن تُمتح لتفيض رخاءاً وحرية على الناس.

وعندما تولى لينين عام 1917 زمام السلطة صار الميكانيكي الأعلى. وكان يفهم، كمثقف لامع، أهمية الأفكار، ولكنه كان يحسب أن الإنتاج الرمزي -أي العقل نفسه- يمكنه هو أيضاً أن يبرمج.

وهناك حيث كان ماركس يتحدث عن الحرية، كان لينبن، بعد استيلائه على السلطة، يحّمل نفسه مسؤولية المعرفة.

وهكذا، فإنه ألحّ دوماً على أن يكون الفن، والثقافة، والعلم، والصحافة، وأي نشاط آخر، في خدمة استراتيجية كلية، وفي الوقت المراد، كانت فروع التربية المختلفة، بانتظار تنظيمها، في إدارات معيّنة، تمنح درجات بيروقراطية محدّدة، على أن تخضع هذه وغيرُها لسلطة الحزب والدولة. عندئذٍ سيستخدم "العمال المثقفون" في مؤسسات تراقبها، وتتحكم فيها وزارة للثقافة.

وكذلك فإن النشر والإذاعة وأمثالها، تكون تحت إشراف الدولة، كما أن المعرفة تصبح هي نفسها دولاباً من دواليب الدولة.

وهذه المقاربة الناقصة للمعرفة، والمتعارضة كل التعارض مع المبادئ الأساسية لكل تقدم اقتصادي في عصر "علم المعلوماتية" هي التي حالت دون كل تقدم في المصانع ذات المستوى الهابط.

(1) المكنة السابقة للتوجيه الذاتي: أي التي تصمم على أساس أن توجه نفسها بنفسها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال