منتصر القفاش البرزخ.. تأسيس حداثة السرد المعاصر وتذوق أساليب الحداثة



أبناء الجيل الذي ولد في الستينيات..
تفتحت حواسهم على النكسة في 67 وأصداء الحلم القومي.. وتفتح وجدانهم على العبور في 73 وتفتح وعيهم على الانفتاح الاقتصادي والتحول الاجتماعي وانتقل بهم الحال من القومية الستينية إلى العولمة التسعينية.
في وسط بحار التحول هذه كيف لرؤيتنا أن تتشكل بوضوح وترسخ في ذاكرة تدير الإرادة وتتخذ القرار وتحقق للإنسان وجوده بين عالم مثالي يعيش في أعماقه حافل بالقيم المطلقة ومساحة متغيرة في واقع لا يكاد يرى الفرد كيانا يستحق التقدير في ذاته.. لقد فرض التغيير نفسه.. الأدوار تتغير..
الوظائف تتغير.. المشاعر تتغير.. الأفكار تتغير.. العالم يتطور بسرعة مذهلة والمسافات بين الأجيال تتسع.. فيما مضى كان الثبات سمة حياة: الموظف في موقعه سعيد بدوره ومكانته حتى يأتي سن المعاش.. اليوم الموظف يبحث عن عمل ثان وثالث.. الشركات تغلق وتغير مسارها ومن الممكن أن تجد نفسك تنزل السلم بدلا من أن تصعد فأنت محدود بدورك ومهاراتك الظاهرة التي يفيد منها الآخرون.. والمبدع دائما يشعر باختلاف عن هؤلاء الآخرين فكيف "يبرمج" نفسه مع واقع لا يكاد يرى ملامحه حتى تتغير.. تلك هي أزمة الجيل الذي ينتمي إليه أحد أهم مبدعي السرد في جيل التسعينيات.. مبدع يبحث عن ذاته في قلب تجربة الكتابة التي يعيش فيها حياة ثرية قد يكون فيها عزاء عن الحياة في واقع حار جاف حينا وبارد قليل المطر حينا آخر.
منتصر القفاش..
ولد عام 1964م ونسج بساطا من السرديات الدقيقة اليدوية الصنع التي تذوب فيها الروح بين الخيوط والألوان..
من مجموعاته القصصية: نسيج الأسماء1989م والسرائر1993م وشخص غير مقصود1999م التي اقتنصت جائزة الدولة التشجيعية  عام 2001م.
ومن رواياته: تصريح بالغياب 1996م وأن ترى الآن 2002م ومسألة وقت التي حصلت على جائزة "ساويرس" في الإبداع عام 2009م.
يضم جيل منتصر القفاش مجموعة من أصحاب المواهب الحقيقية الذين شاركوا معا في تأسيس حداثة السرد المعاصر من بينهم ميرال الطحاوي ونورا أمين ومصطفى ذكري وعادل عصمت وسحر الموجي ومي التلمساني.. ويمكن أن نطلق على الأسماء السابقة "جيل شرقيات" لأن هؤلاء المبدعين ارتبطوا بدار نشر "شرقيات" التي يمتلك مؤسسها حسني سليمان حسا عاليا في تذوق أساليب الحداثة التي تميز جيلا عن جيل فمعظم ما نشرته دار شرقيات لأبناء هذا الجيل يتسم بالسعي إلى الجديد في تأكيد لمفهوم المغايرة والمغامرة الإبداعية واقتناص كلمة في شكل مختلف عما اعتادت عليه التقاليد الأدبية.. وعندما نشرت شرقيات لكتاب كبار ينتمون من حيث السن إلى جيل الخمسينيات مثل إدوار الخراط أو الستينيات مثل إبراهيم أصلان وجمال الغيطاني ومحمد البساطي فقد كان إبداع هؤلاء حداثيا ومختلفا عن الشكل السائد في وقتهم بمعنى أن أقلامهم كانت تمهد دائما الطريق أمام المستقبل.. وتجمع "جيل شرقيات" هذا سمات عامة أهمها التجريب الباحث عن طرق صياغة جديدة وكسر الشكل النمطي للقصة التي تسرد حكاية لها بداية  وعقدة ونهاية فالقصة أصبحت تعبيرا عن أحوال ولحظات وأحلام لا فرق بينها وبين الوقائع .
إن السرد عند هذا الجيل لعبة تستنزف الروح.. قانونها الحرية والانطلاق في عالم شخصيات لا يشعر بها المجتمع ولا يراها أحد لأنها من استحضار الكاتب الذي يضع في كل منها شيئا من نفسه التي يكتشفها في فعل الكتابة.. يحتفي هؤلاء الكتاب بشخصيات لا تمتلك صفات البطولة التقليدية.. إنهم بسطاء جدا ولديهم مهارات خاصة في تذوق الحياة التي لا تراهم.. ولا يوجد في القصة كلمة مباشرة عن أحكام القيمة إن السارد لا يملك سلطة التوجيه ولا يحب أن يرتدي ثياب الناصح الأمين ولا تنتظر منه نهاية سعيدة أو شقية فالبدايات مثل النهايات لأن الحياة لا تقف أبدا.
منتصر القفاش قاص يغامر في السعي إلى المعنى البائن البعيد قي محاولة لاكتشاف دلالة جديدة تضيف إلى رصيدنا مفهوما لم نقترب منه وإلى إدراكنا عمقا أكثر.. إنه ينتهي من مجموعته القصصية ويختار لها عنوانا مناسبا.. ليست مشكلة فكل كاتب يضع عنوان إحدى القصص للمجموعة لكن منتصر لا يفعل.. إنه يضيف شيئا يربط بين كل القصص أو يختلف عنها أو يفسر عملية الإبداع والتلقي أو يخفي شيئا ما يدعونا لكي نبحث عنه معه فمجموعته "شخص غير مقصود" لا يوجد بها قصة بهذا الاسم إن الشمس تشرق على العالم من خارجه والعنوان كذلك شعلة نور صغيرة تلقي أشعتها على مساحات يسير فيها العقل فيجد الضوء والظل حسب قوة حواسه ومنظور رؤيته.
في رواية "مسألة وقت" يضع العنوان أمامنا قضية الزمان وهي مشكلة تجريدية صعبة في الإبداع والفلسفة, الزمان يستدعي المكان دائما والمكان هو الأكثر حضورا في عناوين الأعمال الإبداعية وبخاصة الروايات, إن الرواية في غالب الأحيان تتحرك من مركزية المكان ولا شك أن أعمال عميد الرواية العربية نجيب محفوظ تعلن لنا هذا المفهوم فمن رواياته زقاق المدق وخان الخليلي والثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) وميرامار والكرنك وقشتمر إن كل هذه أسماء أماكن وهي تساعد المبدع في رسم العالم الفني لأن المكان له بعد حسي يتميز بالثبات ويجمع النماذج الإنسانية ويشكل هويتها أما الزمان فهو مفهوم تجريدي متغير صعب تحويله إلى مساحة لها أبعاد مرئية تخاطب الحواس أولا ويستقبلها الذهن من خلال المتخيل البصري. روايات الزمان تبدو قليلة بالمقارنة بالروايات المؤسسة على المكان ومن روايات الزمان المهمة في الأدب المعاصر رواية إدوار الخراط "الزمن الآخر" التي تعالج الزمن النفسي للإنسان بما فيه من مفارقة أو مباينة مع الزمن الواقعي.
ومعالجة الزمان في الرواية من أهم مفاتيح الحداثة والتطور في صياغة الفن القصصي وبعض أعمال رواد تيار الوعي في الرواية العالمية تضع أمامنا هذه الحقيقة ففي الأدب الإنجليزي تطرح رواية "يوليسيس" للكاتب الإيرلندي الشهير جيمس جويس مشكلة الزمان وعلاقتها بالوعي الإنساني كما تنطلق من القضية نفسها رواية "البحث عن الزمن الضائع" للكاتب الفرنسي "مارسيل بروست".
وقديما كان مفهوم الزمان يطرح في الإبداع الشعري من خلال المكان وتمثل ظاهرة الوقوف على الأطلال في الشعر العربي القديم هذه الفكرة فالزمن يتسرب منا ولا نستطيع الإمساك به وتأمله وتجديده على عكس المكان الذي يمكننا رؤيته وإعادة تشكيله كما نشاء أو نقف عنده ونستعيد الذكريات فنعيش في لحظة الإبداع عبر عالمين: العالم الحاضر في لحظة متحركة والعالم المنصرف المستقر في وعينا وحنينا وممتد في فضاء متخيلنا.
قدم منتصر القفاش لمكتبة السرد العربي واحدة من الروايات المهمة التي تعالج مفهوم الإبداع نفسه بوصفه علاقة خاصة بين الأديب والزمن وهي رواية "مسألة وقت" وكان منتصر شديد الذكاء حين استهلها باقتباس من "ألف ليلة وليلة" يقول: "فقال الشاب: يا ملك الزمان أتدري ما بينك وبين مدينتك؟ فقال الملك: يومان ونصف. عند ذلك قال له الشاب: أيها الملك إن كنت نائما فاستيقظ, إن بينك وبين مدينتك سنة للمجد (المسرع المجتهد) وما أتيت في يومين ونصف إلا لأن المدينة كانت مسحورة".
إن "ألف ليلة وليلة" هي أهم رواية زمان في تاريخ السرد العالمي فعنوانها يقول لنا ذلك والقيم الجمالية والفكرية في هذه الليالي لا تنتهي فهي تلهم المبدعين والمفكرين والعلماء وتساعدنا في فهم تجاربنا الفردية والجمعية وتقدم لنا خبرة الروح الإنسانية في التعامل مع الزمن الذي يحتضننا جميعا ويسير بنا في دروب الكون. كان منتصر القفاش مبدعا شديد الوعي عندما تعامل مع الليالي العربية وهو يكتب رواية زمان, وعندما نقرأ روايته "مسألة وقت" سنكتشف أن ليلة واحدة من الحكايات كانت كافية لكي تعلم "شهرزاد" التي ترمز إلى الأرض والاستقرار والحب والخصوبة "شهريار" الذي يرمز إلى القهر والتسلط والدمار والموت, فن الحياة من خلال لعبة السرد ولكن الإنسان لا يفهم من أول مرة فلابد له من التكرار.. لابد له من تعلم الدرس مع إيقاع الزمن المتوالي.
القصة في لعبة الإبداع تصبح حلقة وصل بين عالمين: عالم نفسي مشحون بالصور القديمة والمعاني المتداخلة والأفكار المجردة الدافعة لبعضها بعضا.. وعالم اللغة التي ستحمل هذا كله في أبجدية يفهمها السياق المحيط بالمؤلف.. أي إن القصة جسرا بين ما نريد أن نقوله وما يمكن أن يفهمه الآخرون ويستمتعون به.. وهي لحظة التقاء بين زمن كلي شامل له تداعياته الخاصة يعيش فينا وزمن له تقويمه ووحدات قياسه وإيقاعه العام نعيش فيه. المشكلة تتمثل في علاقة المبدع بالزمن الذي يحيا فيه..
إن شخصية المبدع التي تعيش في الزمن الطبيعي الاجتماعي لا تستطيع في غالب الأحيان التكيف مع الإيقاع الزمني المحيط بها.. أحيانا يكون الإيقاع النفسي للمبدع أسرع كثيرا من إيقاع الواقع.. وأحيانا تكون ذات المبدع متأنية رافضة للتغير السريع.. المبدع يجتر التجارب على مهل ويدرك ما فيها من دلالات ثم يصوغ تجربته بطريقة تغاير ما اعتاد الناس قوله.. إن نجيب محفوظ –على سبيل المثال- يعبر عن طفولته وصباه في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وهو يكتب "الثلاثية" بعد أن تجاوز منتصف الأربعينيات من عمره.. ويعبر عن أزمة منتصف العمر في "الشحاذ" بعد أن تجاوز التجربة واستوعبها وأدرك ماهيتها..  
تلك إحدى مشاكل المبدع الذي يرتحل في "ألف طريقة وطريقة" لإدراك العالم عن طريق السرد.. وتلك هي نقطة الالتقاء المهمة التي يستلهم بها منتصر القفاش "ألف ليلة وليلة"..
إن حركة الزمان تعلمنا فن التكرار الذي تكتسب به اللحظات عمقا في ذاكرتنا.. ولأن الأديب يبحث في قلب كل لحظة عن معناها فإنه يقف.. أو يريد أن يقف في قلب اللحظة ويرتحل في أبعادها ليفهمها ويستمتع بإدراكها بينما من حوله يواصلون رحلة التكرار السريع دون أن يلقوا بالا لفهم حياتهم.
لذلك تأتي إلى "يحيي" بطل الرواية شخصية تؤكد الوقائع الدرامية أنها ماتت قبل زيارتها له.. لأن فرق التوقيت لديه يسمح له بذلك.. يسمح له باستعادة الأوقات والتجارب والمواقف والمعاني واللحظات التي تمر بنا وتتركنا في إيقاع متكرر ونحن نظن أن الزمن يتغير بسرعة وأننا نواكبه في حين أننا نعيش لحظة متكررة لأننا لم نفهم ما يحدث في اللحظات التي تحولت إلى تاريخ..
أكاد أرى في الرواية تجربة جيل يرصد حكايته مع جيل آخر.. إن القفاش يفتح صندوق الأب ويعيد فهم عالمه بعد رحيله وبعد رحيل شخصية الفتاة "رنا" التي هي جزء من شخصية يحيي نفسه..
لقد صدرت الرواية في مطلع عام 2008م بعد رحيل نجيب محفوظ الأب الروحي للرواية المصرية العربية بأشهر قليلة فكانت العلاقة بين يحيي ووالده تمثيلا للعلاقة بين جيل نجيب وجيل منتصر وكانت "رنا" هي الرؤية المتعجلة التي رأى بها جيل الأبناء جيل الآباء قبل أن يعيد البطل تأمل صندوق والده.