الميتامسرح الكروتسكي: "هاملت" لشكسبير.. المزج في الأساليب الفنية بين التمسرح والتمسرح المضاعف وفي الأساليب اللغوية بين الشعر والنثر

لا يمكن الحديث عن الميتامسرح الغربي دون الوقوف عند وليام شكسبير William Schakespeare الذي "جرب، عبر تجربته كلها، المسرح داخل المسرح حيث دمجه كمتواليات في تراجيدياته، كما دمج مثل هذه المتواليات في كوميدياته"(1).

وتعد مسرحيته  "هاملت Hamlet" التي كتبها في فجر القرن السابع عشر (حوالي 1601)، أبز نماذج هذا الحضور الميتامسرحي عنده.
وإذا كانت هذه المسرحية - شأنها شأن الريبرتوار الشكسبيري كله - قد حظيت باهتمام بالغ انصب على مختلف جوانبها الأدبية والفكرية، فإن ما يهمنا نحن، في هذا الإطار، هو نوعية التمظهر الميتامسرحي في هذا العمل، لاسيما وأن شكسبير اعتمد فيه على ما سميناه سابقا بالتجويف المسرحي، حيث بلوره في الإطار ما يمكن أن نطلق عليه هنا: الشعرية الكروتسكية.

والكروتسك Le Grotesque مفهوم أدبي وفني يعود ظهوره - حسب البعض - إلى نهاية القرن الخامس عشر، في حين يعود به فكتور هيجو إلى أبعد من ذلك، وبالضبط إلى الأدب اللاتيني.

وقد اخترق هذا المفهوم الأدب الغربي إلى حدود عصرنا الحاضر، حيث نجد أن الكلاسيكية أخذت حظها منه.
يقول أحد الدارسين في هذا السياق: "إن أشهر كلاسيكيين في مجال الكروتسك الأدبي (رابلي، شكسبير) ينتميان إلى عصر النهضة. لقد كان شكسبير يزخرف مسرحياته بشخوص ممسوخة غريبة كان حضورها يتناقض مع السياق المأساوي العام الذي يدرجون فيه"(2).

وتشكل مسرحية "هاملت" نموذجا للشعرية الكروتسكية سواء على مستوى الشخوص أو الأحداث أو اللغة. لذا، فلا عجب أن نجد فكتور هيجو يجعل من شكسبير - في مقدمة مسرحيته "كرومويل" - ممثلا للعصر الشعري الثالث الذي نعته بالعصر الدرامي الذي يقوم على حشد كل مظاهر الكروتسك في العمل المسرحي، بما في ذلك المزج بين المرعب والمضحك، وبالتالي بين التراجيدي والكوميدي.

يقول هيجو: "شكسبير هو الدراما، أي الدراما التي تصهر في قالب واحد الكروتسك والمتعالي، المرعب والمضحك، التراجيديا والكوميديا"(3).

بموازاة هذا المزج في الأجواء الدرامية والصيغ النوعية، نجد مزجا في الأساليب الفنية بين التمسرح والتمسرح المضاعف، وفي الأساليب اللغوية بين الشعر والنثر.

فقد حاول شكسبيربكل هذا، تقديم عمل أدبي شامل يتضمن مظاهر أدبية متعددة، وقف عليها جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة ترجمته العربية للمسرحية قائلا: "وقد أراد حشد أمور كثيرة في هذه المأساة، ووضع فيها خلاصة لكل ما يتمناه كتاب الدرامه من أساليب.

ففيها تمثيلية ضمن تمثيلية، وفيها شعر ونثر، وفيها حزن وفيها ضحك، وفيها غناء وفيها سخرية من أساليب الآخرين، وفيها جنون وفيها ادعاء بالجنون، وفيها طيف رهيب وجماجم وانتقام، تنتشر فيه الجثث ذات اليمين وذات الشمال، وفيها إلى ذاك كله سحر لفظي وفكر عميق وتأمل بالحياة"(4).

داخل هذا الإطار العام، يتعين وضع الميتامسرح في "هاملت"، وذلك باعتباره إجراء يقوم حكائيا على أساس التجويف، وشخوصيا على أساس نماذج شخوصية ممسرحة وممسرحة في آن واحد، ونوعيا على المزج بين التراجيديا والكوميديا.

ويصب كل هذا في اتجاه رؤية فلسفية تمزج بدورها بين الأفلاطونية والإيمان الديني في عالم ينظر إليه باعتباره مسرحا.
و"هاملت"، من هذه الزاوية، تتقاطع مع المنظور الباروكي السائد في "الحياة حلم"، وإن كانت الخلفية التاريخية المتحكمة فيهما مختلفة.

فمسرحية "هاملت" تعكس روح العصر الإليزابيتي بقيمه الاجتماعية والثقافية والسياسية بما فيها: الوحدة القومية، النظام، الدعوة إلى الثبات والاستقرار والكشف عن مكونات الإنسان المتعددة.(5).

تروي مسرحية "هاملت" قصة أمير دانماركي فقد أباه على إثر مؤامرة قتل دبرها عمه بتواطؤ مع أمه، وذلك من أجل الاستحواذ على الملك.

هذا الفعل الشنيع المتمثل في "مقتل كونزاكو" هو الذي سيشكل بنية المضاعفة أو التجويف في المسرحية، حيث سيتم تشخيصه كمشهد أمام الملك، من طرف فرقة من الممثلين كانت تقوم بجولة.
هذا التمثيل المضاعف سيتخذه هاملت وسيلة لإدانة عمه وأمه.

إن مقتل كونزاكو يشكل حدثا مسرحيا مضاعفا يخترق الدراما، ويعكسها بشكل مصغر كما تعكس المرآة أشياء الواقع، ويبدو أن هاملت نفسه كان يستحضر هذا الوعي المرآوي عندما قرر إسناد تمثيل مأساة أبيه إلى الفرقة المسرحية.

لذا، نجده يخاطب أحد الممثلين قائلا:
"هاملت: كما أرجوك ألا تبالغ بالألفة واللين. فلتكن فطنتك أستاذك. لائم الكلمة حركتها، والحركة كلمتها، متقيدا بهذا الشرط: وهو ألا تتخطى حشمة الطبيعة. فكل مبالغة في القول والحركة إنما هي نابية عن غاية التمثيل، وما هذه الغاية منذ البدء حتى اليوم، إلا أشبه بإقامة المرآة أمام الطبيعة لكي تعكس للفضيلة محياها، وللزراية صورتها ولجسد العصر والمجتمع شكله وأثره"(6).

فالمرآة التي يدعو هاملت إلى إقامتها هنا تستهدف تقديم درس عبر التمثيل، فعن طريق "مضاعفة جريمة الملك وخداع الملكة، تقيم "المسرحية داخل المسرحية" أمام المتهمين مرآة للإدانة Miroir Accusateur "(69).

إن شكسبير يرسم بهذه المرآة إطارا جديدا للمحاكاة الأرسطية يتوسل بأسلوب المضاعفة المسرحية باعتباره أسلوبا كروطسكيا يجمع بين الانعكاس والتقعر أو بعبارة أخرى إنه يعمل على مسرحة الواقع وتحويـل وقائعـه إلى فرجـة يمتـزج فيها الممسرح بالممسرح.

ولعل هذا المزج هو الذي جعل أبيل ينظر إلى شخوص مسرحية "هاملت" باعتبارهم مؤلفين مسرحيين، ومنهم أربعة بالخصوص وهم "كلوديوس، الطيف، بولونيوس، وهاملت [...] فكولديوس كاتب ميلودراما من البداية حتى النهاية [...] والطيف كاتب إليزابيتي نموذجي للميلودراما [...] وبولونيوس كاتب مسرحي هاو بامتياز [...] وهاملت، من أي نوع من الكتاب المسرحيين هو؟ هذا السؤال تصعب الإجابة عليه. فهو يمتلك، شأنه شأن مبدعه، الحس المسرحي الأكثر امتيازا كما هو باد في نصيحته للممثلين. أكيد أن سوداوية هاملت قد دفعته بقوة نحو الشعر التراجيدي، لكنه يوجد في وضعية منعه طيف أبيه من تحديدها تراجيديا"(7).

تفتح هذه القراءة المسرحية لشخوص "هاملت" أمامنا أفقا مهما للنظر إليها باعتبارها تركيبا لاختيارات درامية مختلفة، وبالتالي مزيجا من أنواع مسرحية متعددة بتعدد مصائر الشخوص ومواقفهم واختياراتهم. إن مسرحية "هاملت" تعد، إذن، "مسرحية المسرحيات"؛ وهنا يكمن تميز خطابها الميتامسرحي.

ولا غرو أن نجد هذا النزوع نحو اختيارات درامية معينة لدى شخوص المسرحية يستند بعضها على وعي أجناسي بالاختلاف الموجود بين بعض الأنماط الدرامية السائدة. ولعل هذا ما يعكسه بولونيوس الذي يبدي معرفة واضحة بهذه الأنماط عند حديثه عن ممثلي الفرقة:
"بولونيوس: أبرع الممثلين في العالم. إنهم يجيدون المأساة والملهاة، والمسرحيات التاريخية، والريفية، والريفية الهزلية، والريفية التاريخية، والمأساوية التاريخية، والريفية التاريخية الهزلية المأساوية، كما يجيدون تمثيل المشهد اللايجزأ أو القصيدة اللاتحد. لايتصعبون سنيكا، ولا يستهينون بلاوطوس. وسواء لديهم ما تقيد بقوانين الكتابة وما تحرر منها. إنهم وحدهم الممثلون" (8).

ومن مظاهر هذا الوعي لدى الشخوص، ما يبديه هاملت نفسه الذي يصدر عن رؤية فكرية وجمالية واضحة المعالم تؤمن بأهمية المسرح في الكشف عن الحقيقة وفي الإدانة:
"هاملت: المسرحية هي الشيء الذي سأقبض به على ضمير الملك"(9).

لهذا، نجده يرسم الخطوط العريضة لطريقة أداء وتمثيل المشهد المتعلق بمقتل أبيه حتى يحقق الغاية المنشودة منه، حيث يحذر من السقوط في المبالغة، ويؤكد على الحرص على التلقائية وعلى الملاءمة بين الكلمة والحركة.

فوق كل ذلك، فهاملت - انطلاقا من وعيه الجمالي بشروط التلقي - يوضح خلفية المزج بين المضحك والمحزن، وبالتالي بين الكوميديا والتراجيديا في مشهد "مقتل كونزاكو":
"هاملت: ونبهوا الذين يمثلون أدوار المهرجين ألا يقولوا إلا ما دون لهم للقول، لأن منهم فئة تضحك من تلقاء نفسها لكي يضحك لها عدد من النظارة الأغبياء، بينما المسرحية فيها أمر غير الضحك يجب الالتفات إليه"(10).

إن هذا الخطاب الميتامسرحي، الذي بلوره هاملت، يتضمن العديد من ملامح شعرية شكسبير نفسه.
فالمزج بين المحزن والمضحك كما عبر عنه هاملت، يجد إطاره في الدراما Drame الشكسبيرية القائمة على الكروتسك.

وهذه الشعرية نفسها هي التي تتحكم في شروط إنتاج الضحك وتلقيه في سياق مأساوي، كما هو بارز أثرها في خطاب هاملت السابق.

يستخلص مما سلف، أن الميتامسرح الكروتسكي في "هاملت" يقوم على التجويف، حيث يجسد هاملت صورة شكسبير نفسه، وتشخص مسرحية "مقتل كونزاكو" نموذجا مصغرا للمأساة الكبرى المتعلقة بمقتل الملك.
ويقوم هذا التجويف المسرحي في عمق شعرية كروتسكية تمزج بين الأنواع والعوالم والشخوص في المسرح.

ويمكن القول إن هذه الشعرية هي التجسيد الجمالي لميتافيزيقا العصر الإليزابيتي بشكل عام، وللميتادراما الشكسبيرية بالخصوص التي ينظر إليها باعتبارها تجليا "لظاهرة واسعة من الميتاتمسرح Metatheatricality تقوم على فكرة مفادها أن العالم مسرح"(11).

(1) Ibid - p.66. 
(2) مارتن فان بورن ـ الجسد الكروتسكي : تمظهراته لدى غومبروفتس (في) حسن المنيعي ـ الجسد في المسرح (إعداد وترجمة) ـ مطبعة سندي 1996 ـ ص.106.
(3) Victor Hugo - Préface (in) Cromwell - Garnier - Flammarion 1968 - p.75. 
(4) جبرا إبراهيم جبرا ـ ملاحظة عن تمثيل " هاملت " على المسرح (في) وليم شكسبير ـ المآسي الكبرى ـ عربها وقدم لنها جبرا إبراهيم جبرا ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1990 ـ ص.25.
(5) انظر: د.أ.م.وتيليارد ـ الأدب في عصر شكسبير ـ ترجمة نبيل حلمي ـ دار المعارف مصر 1971.
(6) هاملت (في) المآسي الكبرى ـ ص.114.
(7) Lucien Dallenbach - Le Récit spéculaire - p.22.
(8) Lionel Abel - Metatheatre - p.50/51.
(9) هاملت (في) المآسي الكبرى ـ ص.93/94.
(10) نفســــه ـ ص.103.
(11) نفســه ـ ص.115.
(12) Lurana  Donnels O’Malley - plays within Realistic plays - p.40.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال