الميتامسرح الساخر: "ماكبث" لأوجين يونسكو.. ممارسة إبداعية تنسجم مع الطابع المميز للكتابة العبثية باعتبارها كتابة تقوم على رفض كل مواضعات الدراما الكلاسيكية

يشير جان بيير رينغارت Jean Pierre Ryngaert في معرض حديثه عن علاقة القارئ بتجربة مسرح العبث إلى احتمالين أساسيين:

فإذا "كان القارئ قد سبق له أن تعامل مع المسرح الموسوم بـ"العبث" أو "الميتافيزيقي"، سيجد، في الحال،  موضوعات مألوفة.
وفي حالة العكس، سيواجه نظاما من المعلومات المتناقضة تقوم على أساس المحاكاة الساخرة للدراماتورجيا التقليدية".

لذا، فإن القارئ لمسرحية "ماكبث Macbett" لأوجين يونسكو Eugène Ionesco التي كتبت سنة 1972، سيجد نفسه أمام الاحتمالين معا في آن واحد.

يتعلق الأمربمسرحية تتناول موضوعات مألوفة متداولة بشكل كبير في مسرح العبث، ومنها على الخصوص موضوعة الموت في ارتباطها بعناصر أخرى كالسلطة والحرب وجرائم القتل المتتالية.

علاوة على هذا، فمسرحية يونسكو مستوحاة من عمل درامي سابق في الزمان هو تراجيديا "ماكبث" لشكسبير.
أو بعبارة أدق، إن "ماكبث" يونسكو "هي محاكاة ساخرة لماكبث شكسبير".

ومعلوم أن المحاكاة الساخرة Parodie شكلت، بالنسبة لكتاب درما اللامعقول، إطارا آخر لممارسة إبداعية تنسجم مع الطابع المميز للكتابة العبثية باعتبارها كتابة تقوم على رفض كل مواضعات الدراما الكلاسيكية.

لهذا، تقوم بتحويلها إلى مجال للصراع والمواجهة. ولعل أبرز مظهر يتخذه هذا الصراع هو السخرية التي تعمل على تحويل الأشكال التعبيرية التقليدية، إما بطريقة لعبية Ludique أو هجائية Satirique أو جادة Sérieuse، وذلك انسجاما مع ما تتيحه المحاكاة الساخرة من إمكانات مختلفة لذلك.

وإذا كان الميتامسرح قد ارتبط في العديد من مراحل تطوره بالمحاكاة الساخرة، فإن نوعية هذا الارتباط في مسرح العبث تشكل محطة متميزة ضمن هذا التطور.

فرغم أن المحاكاة الساخرة لا تتضمن - كما هو الشأن في مسرحية "ماكبث" ليونسكو - خطابا نقديا ونظريا ممسرحا بشكل صريح ومباشر؛ إلا أنها تشتغل هي نفسها عبر بنيات نصية تخييلية باعتبارها ميتالغة بالنسبة لنص سابق.

فالنص الساخر الذي هو "ماكبث" يونسكو يستحضر نصا سابقا مسخورا منه هو "ماكبث" شكسبير.
لذا، يتعين - لفهم خصوصيات الميتامسرح في هذا العمل - الوقوف على العلاقة بين النصين وعلى طبيعة المسافة القائمة بينهما ونوعية السخرية التي يمارسها النص الثاني على النص الأول، هل هي جادة أم كوميدية، ثم على طبيعة الكتابة والأسلوب المستعمل في المحاكاة الساخرة.

ذلك أن هذه المستويات تساعد على استخلاص ما إذا كان الأمر يتعلق بمحاكاة ساخرة لنص تراجيدي أم لنوع جاد بكامله هو التراجيديا ممثلة في أحد أبرز تجلياتها عبر التاريخ، وهو التراجيديا الإليزابيتية.

لا مناص أولا من استحضار النص المسخور منه وهو "ماكبث" شكسبير.
فهو نص ينخرط في سياق التراجيديا الإليزابيتية التي شكلت مسرحة التاريخ بالنسبة إليها قاعدة أساسية للإبداع المسرحي.

وقد تمت صياغة هذه المسرحة في إطار شعرية تستوحي أرسطو، وتقيم محاكاتها للتاريخ على أساس مبدأي الاحتمال والضرورة.

فشكسبير يستحضر في مسرحيته أحداثا تاريخية متصلة بالصراع على السلطة خلال فترات معينة من التاريخ الإنجليزي، محاولا استخلاص مواقف إنسانية وطبائع بشرية من خلال هذا الصراع.
وقد حشد لذلك نماذج شخوصية تنتمي، في أغلبها، إلى عالم النبلاء وقواد الجيش واللوردات والضباط.

وإذا كان يونسكو قد أظهر - بشكل مثير للاستغراب - رغبة في العودة إلى بناء الحدث على طريقة، الدارماتورجيا الكلاسيكية، وذلك من خلال الإحالة على الحدث التاريخي الشكسبيري، فإن ما يهمه، بالأساس، هو كون "هذا الحدث سلسلة من جرائم القتل، قبل كل شيء".

بالإضافة إلى هذا فالموت في هذا الحدث لا يتم التعامل معه باعتباره معطى ميتافيزيقيا، وإنما باعتباره مسألة سياسية واجتماعية.

لذا، يتحول التاريخ في مسرحية يونسكو إلى سيل من الوقائع الدامية يستدعي أحدها الآخر بشكل حول النص إلى دائرة يشكل الموت نقطة بدايتها ونهايتها، في آن واحد.

ففي "ماكبث" يونسكو تقتل شخوص عديدة بشكل متواتر منها كاندور Candor، كلاميس Glamiss، بانكوBanco، وماكبث Macbett.

لقد اختار يونسكو، إذن،  توجيه الحدث الشكسبيري في الاتجاه الذي يخدم منظوره العبثي إزاء التاريخ الإنساني باعتباره تاريخا دمويا.

وعليه، فإذا كان الموت حدثا خطيرا وجديا بالنسبة للتراجيديا الشكسبيرية، فإنه أصبح عند يونسكو حدثا مجانيا عاديا ومألوفا.

فمشهد الإعدام، مثلا، في مسرحية يونسكو تحول إلى حدث آلي لا يضفي عليه الكاتب أية فظاعة أو خطورة من شأنها أن تحوله إلى مشهد تراجيدي. إننا نجد أنفسنا، بالأحرى، أمام مشهد "الموت المسلسل La mort à la chaine" إن صح القول.

يمكن القول، إذن، إن يونسكو مارس من الناحية الموضوعاتية تحويلا لعبيا Transformation Ludique على "ماكبث" شكسبير تمثل في إضفاء طابع الابتذال والتكرار والألفة على موضوع خطير وجاد هو الموت، مما جعل المناخ العام للمسرحية يتحول مما هو تراجيدي إلى ما هو كوميدي، وجعلنا بالتالي، أمام مسرحية أجمع النقاد على كونها "الأكثر سوداوية والأكثر غرابة لهذا المؤلف".

فعلى الرغم من احتفاظ يونسكو على النماذج الأساسية التي صنعت الحدث الشكسبيري، إلا أنه أضفى عليها طابعا آخر حولها إلى "آلات ساخرة Automates dérisoires".

علاوة على هذا خلق يونسكو نوعا من التفاعل والتعايش بين هذه النماذج السامية وبين شخوص عاديين ينتمون للفئات المنحطة في المجتمع، حيث نجد رجالا ونساء من الشعب بالإضافة إلى شخوص يوحي مظهرها الأولي بأجواء العبث ومنها صياد الفراشات وبائع المشروبات Limonadier.

فأي موقع للقارئ أن يتوقعه داخل العالم الدامي للمسرحية، بالنسبة لشخصوص من هذا النوع، غير موقع إضفاء الابتذال على الحدث وتوجيهه في اتجاه الضحك.

فبائع المشروبات مثلا يقوم بعمله ويبيع داخل ساحة المعركة غير مبال بما يجري أمامه من قتال وما يحيط به من معالم الموت.
أليس هذا إجراء يقوم على التناقض في الموقف الذي هو أساس العبث.

لم يستثمر يونسكو في مسرحيته التحويل اللعبي فحسب، وإنما مارس أيضا عملية من صلب المحاكاة الساخرة هي التحويل الهجائي Transformation satirique.

ويتجلى ذلك واضحا من خلال الأسلوب الذي كتبت به مسرحية " ماكبث ". إن كوميك اللغة يدعم في هذا النص كوميك الموقف.

فإذا كانت تراجيديا شكسبير قد كتبت بأسلوب شاعري يلائم أجواء التسامي السائدة فيها، فإن يونسكو عبأ، في محاكاته الساخرة، كل الإمكانات التعبيرية التي من شأنها تحويل هذا الجوالشاعري إلى مناخ كاريكاتوري ساخر ومضحك.

فمنذ المشهد الأول في المسرحية، نجد تعابير مقولبة Stéréotypes  وتكرارات كثيرة وكلمات فظة وأسلوبا خشنا.

فهذا جندي يحتسي جرعات من المشروب الذي قدمه له بائع المشروبات، ويعلق عليه قائلا:
"الجندي: (بعد أن شرب بعض الجرعات) ليس جيدا. هذا بول القطط، ألا تخجل؟ أيها السارق".

وهذا ماكبث يتواجه مع ماكول Macol، ويتبادل أنواع الشتائم التي تحشد فيها مختلف النعوت والأوصاف الدنيئة.
فمثل هذه الأساليب لا نجدها حتى في أشد المشاهد توترا داخل "ماكبث" شكسبير.

إن هذه التحولات اللعبية والهجائية التي اعتمدها يونسكو لم يقف أثرها عند حدود سخرية نص لاحق من نص جاد سابق عليه.
فتشويه بنيات الحدث والشخوص والموضوعات والأسلوب، امتد تأثيره ليشمل بنية النوع نفسها.

إن إضفاء أجواء العبث والسخرية على "ماكبث" شكسبير جعلنا أمام نص كوميدي يسخر من التراجيديا كنوع جاد، بمظهريها الجمالي والإيديولوجي في آن واحد.

يستخلص من هذا، أن الميتامسرح في إطار المحاكاة الساخرة العبثية قد حقق من خلال مسرحية "ماكبث" ليونسكو ثلاث وظائف أساسية هي : الوظيفة النقدية والوظيفة التأويلية والوظيفة الإيديولوجية.

فمن الناحية النقدية، وعلى الرغم من كوننا لا نجد في النص خطابا نقديا ونظريا مباشرا إلا أنه يشتغل بإجراءيه التحويليين اللعبي والهجائي، باعتباره نقدا لبنية التراجيديا الإليزابيتية ممثلة في " ماكبث" شكسبير.

ومن الناحية التأويلية، يكشف لنا نص يونيسكو عن آليات جديدة لإعادة كتابة التراجيديا الإليزابيتية بكيفية تحولها إلى عمل كوميدي ساخر يفتح أمام المتلقي أفقا آخر يركز على بعد المسافة والاحساس بالتسامي أمام الشرط الوجودي، وذلك اعتمادا على السخرية والضحك. فالحدث التراجيدي قابل، إذن، لإعادة الإنتاج والتلقي بطرق جديدة لا تؤمن بمحاكاة الاحتمال ولا بالتطهير.

ومن الناحية الإيديولوجية، يتبين أن الهدف الأسمى لدى يونيسكو ليس هو نقل خطاب إيديولوجي مسكوك وجاهز، كما هو الشأن في المسرح التعليمي البريشتي مثلا، وإنما الهدف هو الكشف - عبر بنيات ساخرة - عن مظاهر الوحشية الرابضة في عمق الإنسان، والتي من شأنها أن تحول حياته إلى سلسلة من المشاهد الدموية يكون هو نفسه ضحية لها في نهاية المطاف.

إن هذه الوحشية تجعل كل الشعارات السياسية والخطابات السلطوية مجرد مواقف لإخفاء عمق الفظاعة الإنسانية.

إن الميتامسرح في "ماكبث" يونسكو يؤسس - عبر بنية المحاكاة الساخرة - شعرية جديدة تقوم جمالي على مبدإ التحويل اللعبي والهجائي، وإيديولوجيا على الكشف عن حقيقة إنسانية لا يخلقها هنا الوضع الأنطولوجي للكائن الإنساني، بقدر ما يخلقها شرطه السياسي والاجتماعي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال