بأجنحة النورس أمضي إليك في مجموعة (وتَهِبُ البحرَ) لسارة الخثلان

يحارُ المرء - وهو يقرأ مجموعةَ سارة الخثلاث (ويهبُ البحرَ) من أين يبدأ القراءة، وكيف يتناول المجموعة، وضمن أي جنس أدبي يمكن أن يصنفها؟

لاأدري لماذا  يُصر كثيرٌ من كُتّاب هذا العصر على استجداء كلمة (شعر)؟ علماً بأن كثيراً منهم أبدعَ في جنس أدبي آخر، وينسحبُ هذا الإعلاء للشعر على العامة، وكثير من النقاد.

لقـد ساد هذا المفهومُ للشعر قديماً؛ لأنه لم يكن هناك أجناس أدبية أخرى تنافسه، إلى جانب أن الشعرَ رُبط آنذاك بالعبقرية، والشاعرَ بالعبقري لأنه كان ينهل إلهامَه من وادي عبقر كما كانوا يعتقدون، حتى لقد كان بعض الشعراء يفخر على زملائه لأن شيطانه / ملهمَهُ ذكَرٌ بينما شيطان الآخرين أنثى:
إني وكلّ شاعرٍ من البشرْ -- شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكرْ

لقد اختَلفتْ اليوم المقاييس؛ فلدينا - إلى جانب الشاعر - الروائي والقاص والمسرحي وكاتب المقال وكاتب الخاطرة والناقد المبدع وغيرهم.

ولا يقل أحدُهم عن الآخر إلا بطبيعة إبداعه والخصوصية التي يمنحُها للجنس الذي يكتبُ فيه، لذلك لانجد ما يسوّغ اليوم هذا المفهوم، والشعر ليس إلا واحداً من الأجناس الأدبية، بل إن بعضَها قد تفوّق عليه كالرواية والقصة القصيرة.

لقد صنّفت سارة الخثلان مجموعتها ضمن الشعر، والسؤال هنا: هل التزمت المجموعة بمفهوم الشعر، وماذا حقّقت من ذلك؟

تبني الكاتبةُ (الرؤيا) على مفهوم الحب بشقيه الذاتي والجماعي، وترى أن الحياة لايمكن أن تزدهر دونهما، وهي لذلك تربط كافةَ خيوطِ المجموعة بهذا المفهوم.

فالحبُّ إشراق، والحب حضارة، وفنون، وتشظّي، وجنون.
وهي تُعلن عن ذلك في بيانها الأول، وتطلب من المجتمع أن يبارك لها هذا الحب، تقول:
حبٌّ يحلّقُ بي فوقَ روابي الشمس
فوقَ أنهارِ الماء
حبٌّ يأخذُني إلى أعماقِ الوردةِ
إلى حبِّ البحرِ
وإلى النهرِ
فباركوا لي هذا الحبَّ وحلّقوا معي
إلى روابي الشمس

والحبُّ - أيضاً - يجعل الأشياء تخرج عن حياديتها فتصبح أكثر بهاءً:
امنحني حبَّكَ إني قرّرتُ
أن أملأ آفاقَكَ بالحبِّ
وأن أضعَ التاجَ على قلبكَ
ليكونَ الحاضرُ أجمل
ليكون الآتي أحلى
ولتحلّق في أزماني
عصافيرُ خضراء من أزمانِ الحبِّ المجنون

وفي المجموعة بحثٌ دائم عن الركن الآخر الذي لا يشتعلُ الحبُّ دونه:
امنحني كثيراً من حبِّكَ
كيما يُشرقُ قلبي
كيما أملأُ قسماتِ الدنيا بالنور
علمني أن الحبَّ حضاراتٌ وفنون
حلّق بي آفاقَ الكون

والمجموعة تتعاطى مـع مفهومين جماليين أساسيين هما (مفهوم الجميل) و (مفهوم القبيح) ويمكن القول: إن هذين المفهومين يحرّكان كافة عناصر البنية والدلالة، ويمكن اعتبارهما المدخل الرئيسي لقراءة كافة النصوص.

ولكن يُشار هنا إلى أن مفهوم الجميل يهيمن على مفهوم القبيح مساحةً ودلالةً.
ولعل ذلك يؤكد رغبةَ الكاتبة بتجاوز مستنقع (الرؤية) الذي ربطته بمفهوم القبيح إلى (إشراق الرؤيا) الذي تسعى لصياغته.

وبناء على ذلك ترسم المجموعة صورتين للحبيب أولاهما: صورة الحبيب الجميل الذي يُعطي دون حدود، وهو شفّاف، وصادق، وطيّب، ومعطاء، وهو كنورس البحر رمزٌ للهدوء والسلام، بل أحياناً يتفوق على النورس حين تجعل من النورس وسيلةً للوصول إلى الحبيب الجميل:
يانورسَ الأحلام عليك مني السّلام
قُمْ بنا نرحلْ إلى شواطئه البعيدة
أو نرسمْ على نهره
لوحةً تضمُّنا، قمْ بنا فقد سرى في دمي حبُّه المجنون

وثانيهما: صورة الحبيب القبيح الذي يتميّز بالأنانية والبلادة، ويأخذ كل شيء ولايفي بشيء ، إنه يأخذ ولا يُعطي، ويَفهمُ لطفَ المحبوب ذلاً، ورجاءه جبناً، وبُكاءه ضعفاً.

والشاعرة تُعلن الحرب على هذا النمط القبيح من العلاقة بقولها:
 لأنني ضممتُكَ إلى عالمٍ بهي
نحرتَني ونثرتَ دمي
على قارعةِ الطريق
آهٍ أيها العاشقُ الدعيُّ
نحرتَني ومشيتَ على دمي
فآهٍ من ظنيَ العتيق
وآهٍ من خطواتٍ ضيّعتِ الطريق

ومما يميّز (الحالةَ المعبَّر عنها) لدى الكاتبة: الحرارةُ الوجدانية التي تتدفّق بقوة بحيث يشكّل ذلك انطباعاً لدى المتلقي ألا شيء يضبط حدود الدلالة أو البنية، وكأنه أمام (حالة فطرية) من الكتابة.

وكان يمكن للكاتبة أن تستغلَّ التدفقَ الوجداني لبناء (شعرية النص) الذي افتقدته في عزوفها عن التشكيل ولجوئها إلى التعبير.

ولأن الكاتبة أخلّت بذلك يُلاحظ أن التأثير الانطباعي للتدفق الوجداني يبدأ بالتراجع شيئاً فشيئاً مع كل نص إلى أن يتلاشى ويتبدّد.

ولهذا نحن نتفاعل مع النصوص الأولى من المجموعة أكثر من النصوص التالية.
ومما يؤكد ذلك الأمور التالية:

أولاً- إن محصول الكاتبة مـن المفردات ضعيفٌ، وجميعُ النصوص تفتقد إلى الغنى والتنوع.

ثانياً- هناك ضحالة في التخييل الفني ، وقد أنعكس ذلك على الصورة الفنية التي تعني - في أبسط دلالاتها - شيئاً يجنح إلى التقريب بين حقيقتين متباعدتين، والمجموعة لم تستطع بناءَ أي معادل بديل، أو نموذج فني، فظلت التجربة ملتصقة بكاتبتها، ولم ترتقِ إلى مستوى التعميم الفني.

ثالثاً- هناك فقرٌ في المعجم اللغوي للكاتبة مما دفعها إلى اللجوء إلى الاشتقاق المجاني لبعض المفردات، من ذلك (أقصى أقصاكم، قلها وقل، صمت الصمت، داخل داخلك، هل تذكرها، هل تذكر؟...).

رابعاً- ومن علائم الفقر أيضاً: التكرارُ المتكلَّف في المفردة والتركيب والدلالة.
ومن تكرار المفردة، قولها:
وقالوا هذا مساءُ الغسيل
فتعالوا نغسلُ فيه أدرانَ القلوب
ونغسلُ فيه الدروب
ونغسلُ فيه العيوبَ التي مزّقتنا
ونغسلُ فيه الذنوب
وأتينا فغسلوا منا أصواتنا
وغسلوا منا أحبارَنا
وغسلوا أحلامَنا / وغسلنا أسماءَنا
وغسلنا أرحامَنا
وغسلنا
وغسلتنا طلقةٌ ملأتنا عويلاً
قالوا هذا مساء التأني
وتأنينا وتأنينا وتأنينا
وكان التأني هـو البديل

ومـن تكرار التركيـب قولها: (فنجانُك ياحبي الوحيد) الـذي تكرره خمس مرّات في مساحة ضيقة جداً، وفي مكان آخر (لأنني أحبك) تكررها سبع مرّات، و ( لاتمدّ يدَك) تكرّرها تسع مرّات.

وهناك إلى جانب المفردة والتركيب تكرارٌ للدلالة، وتكاد جميع النصوص تكرّر نفس الدلالات ضمن البنية نفسها.
إن التكرار في الفن - ومن ضمنه الشعر - أمرٌ طبيعي لارتباطه بالمشاعر، ولكن بشرط أن يتموضع في أشكال جمالية مختلفة وصور مختلفة، أعني أن تُحمّلَ الدوالُ معانيَ لم تكن فيها ضمن بنية تؤدي وظائف دلالية خـارج نطاقها.

وإذا كان التكرارُ خارج هذا النطاق فإنه سيُدخِل المللَ ويقتل الفن ويُجهز على مفهوم الشعر، وهذا ما وقعت فيه المجموعة.

خامساً- ضعف الجملة الذي تمحور في السرد والمباشرة و الاستخدام المجاني للمفردات والتراكيب.
إن التفاصيل الجزئية غير الموظفة والتكرار المبالغ فيه وضعف الجملة والفقر فـي التخييل والمعجم اللغوي أفقد المجموعة لذّة الإدهاش، فأضعف من شعريتها.

كان يمكن أن نقبل من الكاتبة سارة الخثلان ما كتبته على أنه جنس أدبي ينتمي إلى الخاطرة أو البوح، وهذا لا يُقلّل من شأن ما كتبت، ولكننا نتحفظ كثيراً على كون ماكتبته شعراً.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال