تؤكـّد الدكتورة شـريفة أبـو مريفة فـي مجموعتها (وجئـتُ عينيك) أنها (أرضُ الضياع).
وتفسّر ذلك بقولها:
ولدتُ غريباً أنـادمُ حزني -- وأسحبُ خَطْوي بليلِ الرزايا
وتكرّسُ حالةَ الإحباط هذه قائلة:
تخطّيتُ الشبابَ بقلبِ شيخٍ -- وما جاوزتُ أعوامَ الشبابِ
وهي تؤسس - بناء على هذا المفهوم المعلَن - الرؤيةَ على شكلين، أولهما الفرد الضائع، وثانيهما المجتمع المفكّك الذي يعاني من احتلال العادات الزائفة والتقاليد البائسة.
ومن أسباب ضياع الفرد أن الكاتبة لم تعد تطمئن إلى أحد، حتى الحب لم يعد فيه عذوبةُ الصفاء ونكهةُ الوفاء.
وهي لذلك ترفضه قائلة:
أعادي القلبَ إن يهوى هواني -- وأنسى أنَّ لـي قلباً يدقُّ
وأقتلُ فيـه صيحاتِ الأماني -- فما غيرُ التجاهـل يستحقُ
هـي الأهـواءُ تُهلِكُ تابعيها -- ونفسُ الحـرِّ بالسلوى أحقُ
أما أسباب (قبح الرؤية) فتعود إلى أن الواقع المعاصر ما هو إلا سلسلة من الهزائم المتتالية.
ولتبرز الكاتبة ذلك كانت تبني كثيراً من المواقف على ثنائية الماضي الشاهق / الجميل، والحاضر المنهزم / القبيح.
وقد انعكست هذه الهزائم والخيبات على الفـرد فأصبح مغترباً بل أصبح منهزماً من أعماقه، وهو يشعر أنه دون هوية، أو ملامح:
رفاقي أتيتُ
وخلفي تسيرُ
قرونٌ من العشقِ للشاهقات
وألمحُ تاريخَ خيرِ الأمم
يطوي جناحيهِ عن ناظري
فينتفضُ الجرحُ من غضبته
وقد عبثتْ فيه قبل المدى
وألقت عليه ستور المهانة
فقد جئتُ صحبي بغير هوية
أفتّشُ عني وسيفي القديم
بطيِّ السنين العجاف
فقد طالَ مكثي
وقلبٌ دخيلٌ على أضلعي
فأنكرتُ أني أنا في إهابي
وأني الذي
تبادلَ والنجمَ عرشه
وتتردد في المجموعة مفردات مثل العقم واليباب لتؤكّد الكاتبة عمقَ الفاجعة التي حلّت بالواقع:
عَقِمَتْ خصبُ رؤانا
وأنزوت أحلامُنا
صادروا المخبوءَ في أعماقِنا
آهِ للعمر الذي كان سراباً
وعلى هذا النحو يأتي قولها :
غرستُ الحبَّ في شتّى دروبي -- فكانَ الغرسُ في أرضٍ يبابِ
وتركّز الكاتبة على صورة (الفرد القبيح) الذي هو نتاج الهزيمة.
ومن علائم قبحه أنه فقَدَ حرارةَ المحب، والدفء الإنساني، وهـو لذلك بـارد لا حياة فيه:
حسبتُك نبعَ الأمانِ الذي
يحنُّ فؤادي ويهفو إليه
فإذا أنتَ صخرٌ يدكُّ سفيني
وإذا أنت حلمٌ أسِفتُ عليه
وإذا أنت في العمر محضُ
افتراء
وزيفٌ أُغالطُ فيه فؤادي
ووحشةُ دربٍ بغير انتهاء
لقد فقدت الكاتبةُ الشعورَ بالأمان والصدق؛ فكل ما حولها زائف، وهي لذلك تفضّل الموتَ بكرامةٍ على العيش الذليل:
إذا كان في العيش ذُلِّي وعاري
وصَوني بعينيكَ قصةَ مجدي
فما طعمُ قتلي كطعمِ انتظاري
سأصغي لعزفِ الكرامةِ يوماً
وأطربُ ميتاً للحنِ انتصاري
وتبني الرؤيا (ومساحتها ضيقةٌ جداً إذا ما قورنت بمساحة الرؤية) علـى بدائل أبرزها: الفرد المتوازن، والمجتمع المطمئن.
ولايكون توازن الفرد إلا بالإيمان، ففيه الطمأنينة، والراحة:
فاقبلني يـا ربـاه ُ إني عائدٌ -- عودَ الغريبِ مودِّعاً بيدائي
خلّفتُ أيامَ الضّلالِ وبؤسَها -- وتركتُ أوهامَ الحياةِ ورائي
حاشا لجودِكَ أن يردّ مهاجراً --عن بابِـه يا سيّدَ الرحماء
وتتابع الكاتبة بناءَ الرؤيا، فتنتقل من توازن الفرد الذي لايكون إلا بالإيمان بالله إلى المجتمع الذي لا يطمئن إلا بالتحرر وتوفّر الأمان، والوحدة ، والتكاتف:
لعينيكَ نغزلُ ألفَ اعتذار
ونسقيكَ حباً ونهديكَ عمراً
لا شيءَ نحنُ بغيرِ الرفاق
وأحياناً تفقد الكاتبة - بسبب زحمة المعاناة - طريقَها إلـى المسار الصحيح للرؤيا، فتجهزُ على علاقتها بالآخر، وتختارُ أرضاً فارغة بلا حدود، وتدخل في مساحات لامتناهية من التيه:
غرستُ الحبَّ في شتّى دروبي -- فكانَ الغرسُ فـي أرضٍ يبابِ
أخِلاّء حسبتُ الجمعَ حولي -- وقـد كانـوا ولكن للرِّغابِ
وثقتُ بصحبةِ الأيـامِ حتى -- حسبتُ السّعدَ يمشي في ركابي
فما كانتْ سوى آلٍ كذوبٍ -- يمزّقُني بأطـرافِ الحـرابِ
قطعتُ الحبـلَ بيني والبرايا -- لأني ما وجدتُ بهم طلابي
سأنشدُ في الفيافي برءَ روحي -- وأتركُ للورى دنيا الذئاب
ولابد من الإشارة إلى ميزة تُحسب للعمل تتمثّل في أنه على الرغم من بؤس الفرد الذي سعت المجموعة إلى بيانه، فهولم يكن يقبل الثبات، بل كـان دائماً يتململ، ويريد التغيير، فالواقع قبيح ولم يعد يُطاق:
رفيقي ظمئنا
رفيقي تعبنا
سئمنا الركودَ بأعماقِنا
مللنا الركودَ بأرواحِنا
كرِهنا الخواءَ بأحداقنا
وحتى تتحقّق الرؤيا لابد من توفّر الإرادة وعدم الانكفاء على الذات.
وبكلِّ أسفٍ يقـع كثيرٌ مـن الشعر الجديد في مأزق (العدمية)، وربما كان أحدَ أسباب ذلك غيابُ المثل الجمالي المحرّض الرئيسي على التجاوز والتخطّي.
ومن الأشياء التي سعت الكاتبة إليها - للتنويع في بنية الشكل الجمالي - التناص لتعبر من خلاله عن أحد سبل الخلاص، وهو الحب.
لكن - مع ذلك - فمجموعة شريفة أبو مريفة تعاني من مشكلات أساسية تجعلها أحياناً قاصرة من الناحيتين الفنية والجمالية عـن تحقيق ما تصبو إليه، وبخاصة أنها تسعى لمقاربة الشعر.
من ذلك مثلاً المباشرةُ والتقريرية والقلق في مقاربة نوع معين من الشكل؛ فالنصوص عمودية وتفعيلة.
وقد تعاملت الكاتبة مع نصوص التفعيلة بنفس الأسلوب الذي تعاملت به مع النصوص العمودية.
فلو أُعيد توزيع الأسطر من جديد في أي نص تفعيلة لخرجنا بنص لا يختلف عن أي نص عمودي فـي الوزن والقافية بلهٌ العناصر الأخرى.
من ذلك مثلاً:
يا زمانَ النازحينْ
طالَ في القلبِ ولوعُ النازحين
عِشْقُنا النابضُ في أرواحنا نارٌ ونورْ
شوقنُا الرابضُ في أعماقِنا وهجٌ يمورْ
يا زمانَ النازحينْ / عُدْ بنا حيثُ بدأنا
قبلَ أن تودي بنا حمّى الحنينْ
أي شيءٍ نحنُ إن ظلَّ النـزوح
عاصفاً يجتاحُ أمنَ الحالمين
وقد خلت أغلبُ نصوص المجموعة من أشـياء كان يمكن أن تقرّبها من تخوم الشعر، مـن ذلك مثلاً خلّوها من الإدهاش الذي يعني هدم توقّع القارىء، وخلوها من الغنى في المفردات والتنوّع في أشكال بناء الجملة الشعرية، وخلّوها أيضاً من المفارقات بأشكالها المتنوّعة، إلى جانب أن هناك مبالغةً في استخدام أدوات الربط، ونقل معظم النصوص إلى شكل من السرد أو (الحكي).
من ذلك قولها:
رفاقي أتيتْ / وعنكم سألتْ
فقيلَ : غريبٌ يسائلُ عن نازحين
وويلٌ لقلبِ الغريب من الوجدِ بعدَ النـزوحْ
نأيتم رفاقي وجرحي أراد دنّوَ الديار
فأوجعَ ذاكَ الرحيلَ جراحي
وبدّدَ حلمي الكبير
وأيقظَ في القلبِ ليلَ الرّهَبْ
وأشعلَ في الروحِ نارَ الولوع
وكان الفتيلُ عليلَ العصبْ
وقد انحصر الزمن في المجموعة بالزمن التقليدي، فلم نلحظ بسبب (علوِّ صوت الخطاب) أشكالَ الزمن الأخرى التي تؤدي إلى تعدّد المواقف وغنى النص، إلى حانب أنه لايوجد انسجام بين الأنا والآخر؛ فهما دائماً على طرفي نقيض.
ولعل هذا الموقف يعكس وعياً زائفاً لحقيقة العلاقة الجدلية بين الطرفين.
إن مجموعة (وجئتُ عينيك) لشريفة أبو مريفة قاربت المناخ التراجيدي فتقاطعت مع مأساة الفرد والواقع، ولكنها ظلّت حبيسةَ النظرة المغلقة التي لاتستطيع أن ترى أبعدَ من مدى الرؤية، وقدّمت كل ذلك عبر قلق واضح في الشكل الجمالي.
التسميات
دراسات روائية