صيغة "المرتجلة": "المرتجلة الجديدة" لمحمد الكغاط.. المقاربة الأدبية والانتقال من النص المكتوب إلى النص الشفوي هو الطريقة المثلى لتحويل ظاهرة أدبية إلى ظاهرة فرجوية



لابأس من الإشارة، أولا، إلى أن محمد الكغاط هو أحد أبرز المسرحيين التجريبيين العرب.
تتميز تجربته باستنادها على خلفية معرفية وجمالية تجعله يبحث، ويفكر، ويجدد أدواته باستمرار. ولعل ما ساعده على ذلك كونه مؤلفا ومخرجا وممثلا وباحثا مسرحيا.
فقد فتحت له هذه التعددية آفاقا واسعة للتعامل مع الظاهرة المسرحية بنوع من الشمولية والتنوع في آن واحد.

فتجربته استقطبت أنماطا مختلفة من الكتابة والفرجة جاءت نتيجة تعامله مع منابع مسرحية مختلفة عربية وغربية.
علاوة على هذا، فانشغاله في أبحاثه الأكاديمية بمكونات الظاهرة المسرحية قد ساعده على تحقيق تراكمات معرفية في الجوانب التي تخدم شخصيته كمسرحي.

والمتتبع لريبرتوار محمد الكغاط، لابد أن يكشف أن اهتمامه بالدراماتورجيا يصب في هذا الاتجاه، حيث يلاحظ كيف يجعل منها أداة أساسية لخلق وتوليد مظاهر التمسرح في النص والعرض المسرحيين على حد سواء.

كل هذه المعطيات ساهمت في تعميق البحث، وترسيخ النزوع التجريبي لديه ودفعته إلى اكتشاف بعض الآفاق الكفيلة بتجديد الظاهرة المسرحية العربية، ومنها أفق الارتجال L'Improvisation، حيث تكاد تكون تجربته في كتابة "المرتجلة" الأولى من نوعها في مسار المسرح العربي. إذا استثنينا يعقوب صنوع الذي كتب مرتجلة ولم يجرؤ على تسميتها كذلك، كما شرحنا ذلك عند وقوفنا على مسرحية "موليير مصر وما يقاسيه".

ولعل ما يزكي ريادة الكغاط في هذا الجانب، هو كونه كتب ثلاثية Trilogie - على غرار ثلاثية بيرانديلو - تضمنت ثلاث مرتجلات هي: "المرتجلة الجديدة"، "مرتلجة فاس" ثم "مرتجلة شميسة للاّ"، عبر من خلالها على موقفه من بعض القضايا الشائكة التي يتخبط فيها مسرحنا العربي، وصاغ عبرها منظوره الخاص إزاء المسرح باعتباره فنا مكرسا لخدمة قضايا الإنسان.

لقد حاول محمد الكغاط أن يضع في مقدمة مرتجلتيه الأولى والثاني التي عنونها ب "المسرح المغربي بين الارتجال والمرتجلة"، مفهومه الخاص للمرتجلة والأسباب التي دفعته إلى خوض تجربة كتابية من هذا النوع. يقول: "ولأن مسرحنا يعاني من كل أنواع المصاعب والعراقيل، فقد لجأت إلى كتابة المرتجلة من أجل طرحها أمام الجمهور، وذلك بعد أن تبين لي أن الحديث عن المشاكل ليس كمعايشتها أو رؤيتها مجسدة .. ولجأت في "المرتجلة الجديدة" إلى السخرية والضحك، وتضخيم المواقف سعيا مني لخلق ما يعرف بالكوميديا السوداء، وقد بالغت في سوداوية هذه الكوميديا، لأصل لا إلى أن من الهم ما يضحك، ولكن إلى أن الهم إذا زاد عن حده صار مضحكا، وأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن البياض إذا اشتد صار برصا".

يقدم لنا الكغاط، من خلال هذا القول، مفتاحين أساسيين لفهم مرتجلته؛ يتعلق أحدهما بمحتواها المتمثل في المصاعب التي يعاني منها المسرح المغربي، ويتعلق الثاني بشكلها، أو بالأحرى بإطارها النوعي وهو الكوميديا السوداء.

ولإبراز الكيفية التي استثمر بها الارتجال في المسرحية، يقول: "قامت تجربة المرتجلة على عنصر هام من العناصر التي ما فتئت التيارات المسرحية المعاصرة تدعو إليه، وهو إشراك الممثلين في التأليف... إننا لسنا هنا أمام تأليف جماعي تقليدي، أو معمل تأليف ساكن يوجهه شخص واحد، إذ تقوم التجربة على أن يكتب كل ممثل مشهده أولا، ثم ينقح أثناء التداريب ويستمر هذا التنقيح بعد كل عرض، كما أن تغيير أحد الممثلين يستدعي تغيير المشهد الذي يتعلق به، وكل مشهد يفرض حركته الخاصة، كما أن قسطا كبيرا من الحرية يترك للممثلين أثناء إعداد العرض ليسهموا بإبداعاتهم في الإخراج، هذا إضافة إلى مشاهد مرتجلة لم تكتب من قبل إلا أنها خضعت للتدريب، وهي مع ذلك قابلة للاتساع، ولارتجال جديد حسب تجاوب الجمهور، واستجابة الممثلين لحرارة اللحظة المسرحية التي يخلقها العرض".

يتبين من هذا القول، أننا أمام تجربة جديدة في الكتابة مخالفة للسائد في المسرح العربي. ذلك أن تعامل هذا الأخير مع الظاهرة المسرحية تم، غالبا، في إطار ما سماه تادوز كوزان Tadeusz Kowzan بالمقاربة الأدبية التي ترى أن الانتقال من النص المكتوب إلى النص الشفوي هو الطريقة المثلى لتحويل ظاهرة أدبية إلى ظاهرة فرجوية.

إلا أن ما يوضحه الكغاط هنا، مخالف لهذا التوجه، لأن العرض هوالذي يصبح منبعا للنص وليس العكس. إن موقفه هذا يجعله ينخرط في سياق بعض التيارات المسرحية الغربية المعاصرة، ولا سيما منها تلك التي بوأت المخرج مكانة مرموقة، وأكدت على أن "التمسرح موجود في كل شيء"، وأن المنطلق النصي ليس سوى واحد من منطلقاته الكثيرة.

ويذكر كوزان، في هذا الإطار، نماذج مختلفة لكل من إرفين بيسكاتور Erwin Piscator والمسرح الحي Living theatre والمسرح المفتوح Open theatre وجرزي كروتفسكي Jerzy Grotowski، حيث يتعلق الأمر لدى كل هؤلاء "بنص مبتكر ومكتوب خلال التدرايب؛ وهو نص شفوي لا يجد شكله المكتوب (الذي لا يكون نهائيا أحيانا) إلا عندما تقدم الفرجة للجمهور".

إن "المرتجلة الجديدة" تنخرط في سياق هذا التوجه الذي اعتبر بمثابة أفق تجريبي آخر في المسرح العربي. فتشكل نصها وانبثاقه من عرض أعده الممثلون ودونوا بعض مشاهده من جهة، والتأكيد على انفتاحه وقابليته لإعادة الكتابة بعد كل عرض جديد من جهة أخرى؛ كل ذلك يؤشر على المنزع التجريبي لهذه الصيغة الارتجالية، ورغبة صاحبها في استقطاب بعض ملامح الحداثة المسرحية في الغرب.
فإذا كان "كل موضوع يمتلك تمسرحا خاصا به"، كما يرى أرمان كاتي Armand Gatti، أحد أبرز المسرحيين التجريبيين المعاصرين، فإن الكغاط يؤكد على العلاقة بين الموضوع الممسرح وشكل مسرحته.

وعليه، فإن بلورة موقف من مصاعب المسرح المغربي قد فرض عليه، بالضرورة، اختيار قالب مسرحي أكثر ملاءمة لذلك هو "المرتجلة"، وصيغة نوعية أكثر كفاية هي "الكوميديا السوداء".

إن إقامة تجربة كهاته على أساس الوعي بالتمسرح، هو الذي يجعل من "المرتجلة الجديدة" نصا مفتوحا قابلا لإعادة الإنتاج موازاة مع تغير شروط التلقي.
ولعل هذا ما يزكي المظهر الحداثي لهذه التجربة.

وحتى يكتمل التصور الذي يقدمه الكغاط عن مرتجلته، فإنه يفصح عن الدعامة الإيديولوجية التي تسند هذا التصورالجمالي، حيث يقول: "ولعل من أهم مميزات المرتجلة الجديدة أنها استلهمت "قالب" المرتجلة من أجل البحث عن قالب جديد يمكن بواسطته طرح قضايا إنسانية، وعرض إنسانية الإنسان".

فإذا نظرنا إلى هذه النوايا في ضوء بعض التصورات السائدة عن الإنسان، فإن بإمكاننا أن نعتبر ما يعكسه الكغاط هنا محاولة لجعل المسرح العربي ينخرط في سياق ثقافة الحداثة، خصوصا وأن هذه الثقافة عرفت "بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية".

وإذا علمنا أن "المرتجلة الجديدة" تسلط الضوء على بعض المكونات السلبي-ة العامة - والسيكولوجية  بالخصوص - في الإنسان، فإننا يمكن أن نقول إن تجربة الكغاط تنحو نحو ملامسة بعض المفارقات الكبرى للحداثة، لاسيما وأن "المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل وينسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة والتاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية ومحدداته العضوية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية..)".

في هذا السياق، نعتقد أن الكغاط حاول أن يسلط الضوء، من خلال مرتجلته، على الطابع المزدوج والمفارق للإنسان، وذلك من خلال سلوكات ومواقف وخطابات شخصياته، ولاسيما منها النماذج المتسلطة.

إن المعطيات الجمالية والإيديولوجية التي أفصح عنها الكغاط في مقدمته تقدم لنا إضاءات مهمة لفهم خطابها الميتامسرحي والاقتراب من طرق تشخيصه موضوعاتيا، شكليا ونوعيا.

تقدم "المرتجلة الجديدة" نفسها للقارئ باعتبارها "مشروع عرض مسرحي"؛ وكونها كذلك يعني أن استراتيجية الارتجال هي التي تتحكم في الوضع النهائي للنص، وذلك بجعله رهينا بالعروض وبدرجة استجابة الجمهور لها.

لذا، فالنص الذي بين أيدينا ليس سوى إمكانية واحدة أو تحقق Concrétisation أولي - بلغة جمالية التلقي - داخل سلسلة من التحققات الممكنة والمتغيرة بتغير ظروف العرض. والملاحظ أن نص "المرتجلة الجديدة" مكون من مشاهد ثابتة وأخرى متغيرة تجعله قابلا للتحيين.

ففي مقدمة Prologue المسرحية، يقول المؤلف: "كتبت هذه المرتجلة بعد سلسلة من المقالات تصدت للتسلط والادعاء على المسرح .. وكان الإخراج فيها موازيا للتأليف تماما كما يكتب الموقف الذي يراعي أذن المشاهد وعينه في نفس الآن، وقد اشترك في تأليفها كل الممثلين: فهناك مشاهد للمؤلف المخرج، وهناك مشاهد ألفها الممثلون، وهناك مشاهد ستقدم أمامكم ارتجالا".

وللتأكيد على ذلك تتخلل النص إرشادات مسرحية تشير إلى هذه الأنواع من المشاهد في سياقها. من ذلك، مثلا، "هذا المشهد ارتجله الممثلون عند بداية التداريب ثم كتب كل ممثل حواره بتوجيه من المخرج.. أما المشهد الارتجالي الذي يأتي بعد هذا وهو غير مثبت هنا فهو يعتمد على التداريب دون أن يكتب.. وما هو مثبت هنا يعتبر صورة من الارتجال الذي تم في عرض 29 - 06 -87 بمتحف البطحاء بفاس".

إن هذه الإشارات تجعلنا أمام نص مليء بالفجوات Troué، غير مكتمل، علاقته بالعرض ليس اشتراطية وحسب وإنما هي ارتهانية، أيضا، مما يجعل اللعبة المسرحية مفتوحة على المتلقي لأداء دوره في ملء فجواتها.

وانكشاف اللعبة من جهة، وقيامها على أساس الارتجال من جهة أخرى، يهيئان أرضية ملائمة لتخصيب الممارسة الميتامسرحية سواء في مستواها اللعبي أو النقدي.

تتمحور"المرتجلة الجديدة" حول موضوعة أساسية هي : التسلط في مجال المسرح.
ويتم تجسيدها من خلال بنية شخوصية تستقطب هذه الخاصية في علاقتها بمختلف الأطراف المعنية بعملية الإنتاج والتلقي المسرحيين وهي: المؤلف والمخرج والممثل والناقد.

يلاحظ أن أسماء هؤلاء، في المرتجلة، مسبوقة بصفة "المتسلط".
هذا المعطى المباشر والصريح يفهم منه أن التسلط بلغ درجة قصوى أصبح معها هو الأصل في الشخصية وهويتها المسرحية هي الفرع.
أو بعبارة أخرى أن صفة مؤلف أو مخرج أو ناقد هي مجرد قناة لتصريف معطى سابق هو التسلط.

ولتسليط الضوء على تمظهرات التسلط في المسرحية، يركز الكاتب على سلوكات ومواقف وخطابات تصدر عن النماذج المتسلطة المذكورة. فمنذ الوهلة الأولى تكشف المرتجلة على جهل بعض التقنيين للمسرح، وذلك من خلال الإشارة إلى الحركة التي يقومون بها فوق الخشبة، والتي يقصد بها "إظهار الفوضى العارمة التي تصاحب عمل التقنيين، وخاصة عندما يكون حافزهم هو إخفاء جهلهم بتقنية المسرح تحت ستار الصياح والصراخ وترديد بعض مصطلحات الخشبة".

إن البدء بهذه الإشارة يؤشر على أن الكغاط كتب المرتجلة بوعي المخرج الذي يدرك جيدا مظاهر التسلط في المسرح حتى في المواقف التقنية الأكثر دقة. وهو يبدأ بهذه المظاهر باعتبارها جسرا للعبور نحو كشف التسلط الصريح الذي تجسده ثلاث شخصيات أساسية هي: المتسلط المؤلف، المتسلط المخرج والمتسلط الناقد.

فمواقف هؤلاء من النص المسرحي من حيث طبيعته وموضوعاته ولغته، ومن علاقات المؤلف بالمخرج، ومن مفهوم النقد، تكشف عن جهل واضح بقواعد اللعبة المسرحية وتسلط على عوالمها.

ففي إطار الاتفاق حول طبيعة النص، مثلا، يقول المتسلط المؤلف للمتسلط المخرج:
" المتسلط المؤلف: خصك تفهمني... احنا ماغاديش نديرومسرحية من ذاك النوع اللي ما كيدخللوش الناس، مكاين نعاما سيدي غير التكعكيع.. والتكرديس، والتشقليب.. والركيع.. والتكوميك.. حتى يبقى الجمهور يبكي بالتكوميك... خليني من اللغة العربية الفصحى.. والشعر والهدور.. والتاريخ.. والتراث.. وبنادم غير حال فمو مافاهم والو. اشرط علي ما كاين غير التكعكيع .. والتكوميك".

إن ما يكشف عنه خطاب المؤلف هنا من اختصار لوظيفة المسرح في الإضحاك مع التعبير عن ذلك بكلمات عامية مبتذلة، ومن إنكار لأهمية مسرحة الشعر أو التاريخ أو التراث، ولأهمية العربية الفصحى. كل هذا يعد مظهرا للتسلـط على فن نبيل وعلى بعض مظاهره المشرقة في سياقنا المغربي.

فالمرتجلة تعكس، إذن، سوء التفاهم السائد في المسرح المغربي بين المشتغلين في حقله، حيث يعتبر البعض أن إضحاك الجمهور هو الغاية النهائية للمسرح. لذا، يتم اللجوء إلى أقصر الطرق من أجل تحقيق ذلك (التكعكيع، التكرديس، التشقليب، الركيع، التكوميك؛ كما جاء في خطاب المتسلط المؤلف).

وبالمقابل نرى أن المحاولات المشرقة التي تعمل على تكريس فرجة مؤسسة على قيم معرفية وجمالية (مسرحة التاريخ والتراث، الاهتمام باللغة العربية) غالبا ما يحكم عليها بأنها أعمال غامضة ولا تواص-لية.

إن " المرتجلة الجديدة " تجسد عن طريق هذه الإشارات "صراع المسارح" كما هو دائر في سياق المسرح المغربي. والملاحظ أن المنظور المتحكم في ذلك هو منظور مؤلف - مخرج معني بهذا الصراع بشكل مباشر، هو الكغاط نفسه باعتباره أحد صانعي المشهد المسرحي بالمغرب.
ولعل ما يدفعنا إلى هذا التأويل هو النموذج الحاضر في المسرحية باعتباره نقيضا للتسلط، والذي تمثله شخصية "المسرحي".

فاختيار شخصية بهذا الاسم في المرتجلة يسير في اتجاه الفهم الشمولي للظاهرة المسرحية من لدن الكغاط نفسه، لاسيما وأننا أشرنا في البداية إلى كونه مؤلفا ومخرجا وممثلا.

واعتبار هذه الشخصية بمثابة البديل الحقيقي عن مظاهر التسلط سواء لدى المؤاف أو المخرج، له علاقة بطبيعة الوعي الجمالي والإيديولوجي الذي يسند ممارستها.

في هذا الإطار، يلاحظ أن انخراط "المسرحي" في الأحداث يتميز بالشاعرية سلوكا وخطابا، وتترجم هذه الشاعرية وعيا بشروط الفن تتوخى الارتقاء بذوق الجمهور، وتجسيد إنسانية الإنسان. من ثم، يمكن القول إن شخصية "المسرحي" هي لسان حال الكغاط نفسه في مرتجلته، لأنها تبلور النوايا التي أعلن عنها في مقدمته والمتعلقة بدور المسرح في تثبيت إنسانية الإنسان:
"المسرحي :لأني أنظر إلى الفن في علاقته بالإنسان.
لأني أريد أن أخاطب إنسانية الإنسان.
لأني أرى المسرح جسرا يصل الإنسان بالإنسان..."

إن شخصية "المسرحي" تقوم، إذن، بتقويض خطاب التسلط لتقيم مقامه خطابا إنسانيا يستند على وعي فني يؤمن بدور الجمهور في تخليص المسرح من المتسلطين. وتنافر هذين الخطابين في المرتجلة يحولها إلى "عمل مواجهة Oeuvre de combat" يعكس التناقض بين اللامسرحي والمسرحي، وبالتالي بين اللاإنساني والإنساني.

وإدخال الجمهور في هذه المواجهة يحول المرتجلة إلى "محاكمة مباشرة" يلعب فيها دور الحكم. وتقف "المرتجلة الجديدة" بهذه المواصفات، بموازاة المرتجلات الغربية التي تقوم على "صراع المسارح" ويشتغل فيها النقد على مرأى ومسمع من الجمهور.

ونظرا لما تتيحه الممارسة الكوميدية من إمكانات نقدية، فإن الكغاط - بالنظر إلى الصيغة المبتذلة التي اتخذها "صراع المسارح" في سياقنا المغربي - اختار القالب الكوميدي الأسود لبلورة موقفه من هذا الصراع ومن التسلط الناجم عنه.
لهذا، نلاحظ أن المرتجلة تحفل بالمواقف الساخرة سلوكا ولغة.

فالشخصيات المتسلطة يتم رسمها بطريقة كاريكاتورية (المتسلط المؤلف يحمل قلما عملاقا وحزمة أوراق في حجم أوراق الجرائد وينبطح على بطنه بين فكي أحد السلالم ثم يكتب)، وحواراتها مليئة بالخطابات المسكوكة الجاهزة واللامفكر فيها، ناهيك عن بروز ما يسمى بالمؤثرات العبثية Effets d'absurde في لغة الحوار، ومنها على الخصوص ما يسميه التداوليون بابتذال الأقوال banalisation des propos، كما هو الشأن في الحوار التالي:
" المتسلط المؤلف: يجلس على ... يجلس على ...
المتسلط المخــرج: على الكرسي ...
المتسلط المؤلــف: لا
المتسلط المخرج: على بطنه
المتسلط المؤلـــف: لا
المتسلط المخـرج: على رأسه
المتسلط المؤلف: آه .. يجلس على قاعه ..." .
ومنها أيضا اللعب بالكلمات بطريقة إيقاعية تجعل الحوار يتطور على أساس الدال وليس المدلول، كما في حوارات مسرح العبث، ومثال ذلك ترديد كلمـــات
(يقول .. ما يقولش) بين الشخصيات الثلاث المتسلطة.

يستخلص مما سلف أن محمد الكغاط دشن للميتامسرح العربي إطارا جماليا واضحا يجعله ينخرط في التراكم الذي حققه المسرح الغربي، وذلك بصياغة عمل يتمثل، بشكل جيد، مواصفات "المرتجلة" ويستقطب بنياتها المفتوحة على ذات مؤلفها من جهة، وعلى واقعه من جهة أخرى. وذلك من أجل بلورة "عمل مواجهة" غايته القريبة هي تسليط الضوء على "صراع المسارح"، أو بالأحرى "صراع المسرحيين" عندنا، وغايته البعيدة التأكيد على إنسانية الإنسان.