الفلسفة المدرسية (السكولائية): رحلة الفكر الكنسي من القرن التاسع إلى عصر النهضة - استكشاف نشأتها، أعلامها، وتطورها من أوغسطين إلى الأكويني

الفلسفة المدرسية (السكولائية): رحلة الفكر الكنسي من النشأة إلى الأوج

تُشكل الفلسفة المدرسية (السكولائية) حقبة زمنية محورية في تاريخ الفكر الغربي، تمتد تقريبًا من القرن التاسع الميلادي حتى القرن الخامس عشر، مُلتقية بعصر النهضة. يُطلق عليها هذا الاسم، "مدرسية" (Scholasticism)، لأنها كانت تُعلَّم وتُمارس بشكل أساسي داخل المدارس آنذاك. وبالتالي، يُمكن أن يُطلق مصطلح "مدرسي" على كل من يُدَرِّس في تلك المدارس، أو على من حَصّلَ جميع المعارف التي كانت تُدرَّس فيها، مما يُبرز طابعها التعليمي والمنهجي.

كانت هذه المدارس ذات طابع كنسي بامتياز، تُقام إما داخل الأديرة، لتُعرف بـ"مدارس الرهبان" المخصصة لإعداد الرهبان، أو خارج الأديرة، وتُسمى "مدارس أسقفية" وكانت تُعنى بإعداد رجال الدين غير المترهبين للخدمة في الكنيسة والمجتمع. شكلت هذه الفلسفة محاولة منهجية لربط الفلسفة اليونانية والرومانية بالفكر المسيحي واللاهوت.

المراحل الرئيسية للفلسفة المدرسية:

تطورت الفلسفة المدرسية عبر عدة مراحل، كل منها تميزت بخصائصها الفكرية وأعلامها البارزين:

1. المرحلة الأولى: النشأة والتأسيس (القرن التاسع - القرن الثاني عشر)

شهدت هذه الحقبة بداية الفلسفة المدرسية وتزايدًا في أعداد المدارس وانتظام التعليم فيها.

النشاط المبكر والازدهار:

  • بدأ القرن التاسع الميلادي بنشاط فلسفي واسع، برز فيه اسم الفيلسوف الإيرلندي جون سكوت إريجينا (Johannes Scotus Eriugena)، الذي اشتهر بترجماته لأعمال الفلاسفة اليونانيين ودمجه للفكر الأفلاطوني الحديث مع اللاهوت المسيحي، مما وضع اللبنات الأولى للفكر المدرسي.
  • على الرغم من هذا النشاط المبكر، شهد القرن العاشر فترة من الانكماش النسبي في النشاط الفكري، غالبًا بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عمت أوروبا.
  • لكن هذا الانكماش لم يدم طويلاً، حيث استؤنف النشاط الفكري بقوة في القرن الحادي عشر، ممهداً الطريق لظهور أسماء لامعة.

المادة العلمية الأساسية:

  • كانت "البضاعة العلمية" الأساسية للاهوتيين المدرسيين في هذه المرحلة هي الآثار الفكرية واللاهوتية التي تركها القديس أوغسطينوس (Saint Augustine of Hippo)، والذي كان يُعتبر المرجع الأسمى في الفكر المسيحي الغربي.
  • إلى جانب تعاليم أوغسطين، استمد الفلاسفة المدرسيون الأوائل بعض الآراء الأفلاطونية، خاصة تلك التي وصلت إليهم عبر الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، مما ساعدهم على فهم العلاقة بين الإيمان والعقل.

أعلام المرحلة الأولى: القديس أنسلم من كانتربري (Anselm of Canterbury) (1033 - 1109م):

  • يُعد القديس أنسلم، اللاهوتي والفيلسوف الإيطالي، من أكبر الأسماء التي عرفتها هذه المرحلة وأكثرها تأثيرًا.
  • اشتهر أنسلم بـ "دليله الأنطولوجي على وجود الله"، وهو دليل فلسفي يستند إلى مفهوم الكمال، ويُجادل بأن وجود الله أمر ضروري منطقيًا لأنه أكمل الكائنات.
  • جمع أنسلم في مؤلفاته ببراعة بين الإيمان بالأناجيل والتصديق بفلسفة أوغسطينوس. كان يرى أن العقل يُمكن أن يدعم الإيمان ويُعمقه، لا أن يُعارضه.
  • يقوم منهجه الفكري على مبدأ "تعقل الإيمان" أو "الإيمان الذي يسعى إلى الفهم" (fides quaerens intellectum)، والذي لخصه في مقولته الشهيرة: "إني أؤمن كي أعقل" (Credo ut intelligam). هذه المقولة، التي تشبه إلى حد كبير قول القديس أوغسطينوس، تُشير إلى أن الإيمان هو نقطة الانطلاق الأساسية، وأن العقل يُستخدم لفهم وتفسير هذا الإيمان بشكل أعمق.

2. المرحلة الثانية: العصر الذهبي وظهور الأرسطوطالية المسيحية (القرن الثالث عشر)

تُعتبر هذه المرحلة الذروة والقمة في تاريخ الفلسفة المدرسية، حيث شهدت ظهور أعظم فيلسوف لاهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الإكويني.

القديس توما الإكويني (Thomas Aquinas) (1224 - 1274م):

  • يُعد الإكويني بلا شك الفيلسوف الأبرز في الفلسفة المدرسية. لقد كان له دور محوري في إحداث ثورة فكرية من خلال تقديمه لـ "الأرسطوطالية المسيحية".
  • قبل الإكويني، كان فكر القديس أوغسطينوس، المتأثر بالفلسفة الأفلاطونية، هو المهيمن على الفلسفة الأوروبية لعدة قرون. لكن الإكويني، بتأثره الكبير بفلسفة أرسطو التي بدأت تُترجم وتُصبح متاحة في الغرب عبر الفلاسفة المسلمين، نقض المذهب الأوغسطيني المهيمن وفتح آفاقًا جديدة للفكر.
  • عمل الإكويني على التوفيق بين الإيمان المسيحي والفلسفة الأرسطية، مُعتقدًا أن العقل والإيمان يُمكن أن يتكاملا دون تناقض. قدم أدلة عقلية على وجود الله (مثل الأدلة الكونية)، وحاول تفسير المفاهيم اللاهوتية من منظور أرسطي.
  • ترك الإكويني إرثًا فكريًا ضخمًا، تمثل في ثمانية وتسعين كتابًا، بعضها يصل إلى ثلاثة آلاف صفحة، وأشهرها "الخلاصة اللاهوتية" (Summa Theologica) و"الخلاصة ضد الوثنيين" (Summa Contra Gentiles).

نشأة التوماوية والمواجهة مع المعارضين:

  • عقب وفاة الإكويني، نشأت حركة فكرية تُناوئ فلسفته وتتهمه بـ"الابتداع" والانحراف عن التعاليم الأوغسطينية التقليدية، وذلك بسبب جرأته في دمج الفكر الأرسطي الذي كان يُنظر إليه بعين الشك.
  • ومع ذلك، ومع مرور الوقت، تنامى أنصار فلسفته تدريجيًا. أدركت الكنيسة الكاثوليكية قيمة فكر الإكويني وعمقه وقدرته على توفير إطار لاهوتي وفلسفي قوي.
  • في سنة 1318م، أعلن البابا أن التوماوية (Thomism)، وهي الفلسفة التي أسسها الإكويني، "منحة إلهية"، وفي خطوة تاريخية أخرى، أُعلن الإكويني قديسًا. هذا الاعتراف الرسمي من الكنيسة عزز من مكانة فلسفته وجعلها الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية.
  • وقد وجد الكاثوليك في التوماوية "أسلحة فلسفية" قوية يُمكنهم بها مواجهة الفلسفات الحديثة الناشئة في عصر النهضة وما بعده، وكذلك الرد على الحركات اللاأدرية التي تُشكك في إمكانية معرفة الله أو الحقيقة المطلقة. قدمت التوماوية منهجًا عقليًا صارمًا يُمكن من خلاله الدفاع عن الإيمان المسيحي.

خلاصة:

تُعتبر الفلسفة المدرسية، بكل مراحلها وأعلامها، حلقة وصل أساسية بين الفكر الكلاسيكي والفكر الحديث في أوروبا. لقد شكلت إطارًا فكريًا مكثفًا سَعى للتوفيق بين الإيمان والعقل، ووضع أسسًا للكثير من الجدالات الفلسفية اللاحقة. إن فهم هذه الحقبة يُسلط الضوء على تطور الفكر الإنساني وتفاعله مع السياقات الدينية والثقافية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال