التأثير والتأثر في الأدب المقارن العربي.. ظهور مواضع الضعف النظري واتضاح الخلفيات الإيديولوجية

إن الأديب المتأثر إبداعياً هو من ينتقي العمل الأدبي الذي يتأثر به، وهو الذي يستفيد إبداعياً من ذلك العمل بالصورة التي تلبّي حاجاته.
لذلك فهو الذات لا الموضوع، الفاعل لا المنفعل في عملية التأثر الإبداعي، أو بالأصحّ: التلقي الخلاق المنتج.

كذلك فإنّ الجري وراء أوجه التناظر بين الطرف المتأثر وبين الطرف الأدبي المؤثر يطمس أوجه الاختلاف والتباين الموجودة بينهما، ويحجب بالتالي أوجه التجديد والأصالة، ويظهر الأدب المتلقي في مظهر أدب تابع للآداب الأجنبية.

فإذا كان الأدب المتلقي هو الأدب العربي فإنّ دراسات التأثير تنتهي إلى البرهنة على تبعيته للآداب الأوروبية، وتصبّ في التحليل النهائي في مصلحة "المركزية الأوروبية".

أمّا إذا كان الطرف المتأثر أدباً أوروبياً، وكان الطرف المؤثر هو الأدب العربي، كما هي الحال بالنسبة لقصص ألف ليلة وليلة والمقامة ورسالة الغفران والشعر الأندلسي، فإنّ دراسة حالات التأثير والتأثر توظّف لصالح نزعة التبجّح القومي من خلال إظهار فضل العرب على الأوروبيين، وهي نزعة واسعة الانتشار، إطارها التاريخي هو الصراع بين الثقافة العربية المعرّضة للتغلغل وبين الثقافة الغربية المهيمنة.

ولذا فإنّ دراسات التأثير والتأثر لا تقدّم شيئاً ذا قيمة معرفية كبيرة، ولا تقدّم خدمة هامّة للأدب العربي أو للثقافة العربية، وذلك خلافاً لما يعتقده بعض المقارنين وعلى رأسهم الدكتور غنيمي هلال.

ولهذه الأسباب أيضاً دعونا لأن يستعيض الأدب المقارن العربي عن أبحاث التأثير هذه بأبحاث تستند إلى نظرية التلقي الأدبي، ولا سيما التلقي الإبداعي المنتج، لأنها تقوم على أساس نظري أحدث وأسلم، ولأنها تعود على الأدب والثقافة العربيين بفائدة أكبر.

إنها لمفارقة كبيرة حقاً أن يتمسك قسم كبير من المقارنين العرب بمنحى التأثير والتأثر، وأن يكرسوا جهودهم لدراسة تأثر فلان من الأدباء العرب بفلان من الأدباء الأجانب، في وقت تخلّى فيه المقارنون الأوروبيون أنفسهم عن هذا النوع من الدراسات، وذلك بعد أن ظهرت مواضع الضعف النظريّ، واتضحت الخلفيات الإيديولوجية لاتجاه التأثير والتأثر في الأدب المقارن.

ومهما يكن من أمر فإنّ الأدب المقارن في الوطن العربي، وبغضّ النظر عن المنحى الذي ينحوه، مازال مفتقراً إلى نماذج مقارنية ذات أسس نظرية واضحة، ومازال المقارنون العرب مطالبين بتقديم إجابات مقنعة عن سؤال: كيف نمارس المقارنة الأدبية تطبيقياً؟

فالبحوث التطبيقية التي أنجزها المقارنون العرب حتى الآن، مثل بحث "ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي"، لا تدلّ على وعي كاف لأهمية تطوير نماذج مقارنية قائمة على أسس نظرية واضحة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال