تأريخ الأدب وعلم التأويل والشعرية.. التلقي ليس عملية موضوعية صرفاً يحددها النصّ الأدبي وحده بل هو عملية لها أبعاد ذاتية تختلف من متلقٍ لآخر

في أواخر الستينيات ظهرت في مدينة كونستانس الألمانية مجموعة من النقاد الذين استوقفتهم الإشكالية الكبيرة التي ينطوي عليها تأريخ الأدب، وقد شكّل أولئك النقاد حلقة عمل حول موضوع "علم التأويل والشعرية" (Poetik und Hermeneutik).

إنّ علم التأويل ليس جديداً، وهو أحد مكونات الفلسفة.
وقد ازدهر هذا العلم في الفلسفة الألمانية على يد الفيلسوف "شلايرماخر" (F. Sechleiermacher) ولكنّ تطبيقاته لم تتمحور حول مسائل فهم الأعمال الأدبية وتفسيرها بل حول فهم أنواع أخرى من النصوص، وفي مقدمتها النصوص الدينية.

ثم جاء الفيلسوف الألماني المعاصر "غادامر" (H. G. Gadamer)، فأحيا علم التأويل وحدّثه وطبقه على قضايا ثقافية معاصرة.

وقد انطلقت "جماعة كونستانس" من علم التأويل الحديث هذا، وعملت على الاستفادة منه وتطبيقه في تفسير النصوص الأدبية.

وقد تمخض عمل تلك الجماعة عن نتائج مهمة، تعدّ فتحاً أو "تحول أنموذج" في نظرية الأدب والنقد الأدبي، بات يعرف بنظرية التلقي أو "جمالية التلقي" (Rezeptionsaesthetik).

لقد توقفت حلقة عمل "الشعرية وعلم التأويل" طويلاً أمام إشكالية التلقي، فعمقتها ووضعتها في سياقها الصحيح وفي المكان المناسب من سيرورة العمل الأدبي، تلك السيرورة التي لاتبدأ بإنتاج العمل الأدبي، بل تبدأ قبل ذلك بعمليات تلقٍ إبداعي منتج، وتنتقل بعد إنتاجه أو كتابته إلى أطراف أخرى ليس للكاتب أو المبدع أية إمكانية للتأثير أو لفرض "قصديته" عليها.

إنّ من يؤوّل النصّ الأدبي ويحدد مدلولاته في هذه المرحلة هو المتلقي، ليس في ضوء النصّ وحده، بل في ضوء "أفق توقعاته".

وهكذا فإنّ إنتاج النصّ الأدبي ليس أكثر من حلقة في سيرورته، وكلّ عملية من عمليات التلقي تشكّل تجسيداً لما ينطوي عليه النصّ من معانٍ كامنةً.

وباختصار شديد: في عملية التلقي يحدث انصهار بين "أفق النص" و "أفق توقعات" المتلقي، وينجم عن انصهار هذين الأفقين توسيع أفق المتلقي وإغناؤه.

فالتلقي ليس عملية موضوعية صرفاً يحددها النصّ الأدبي وحده، بل هو عملية لها أبعاد ذاتية تختلف من متلقٍ لآخر.

في ضوء هذه النظرة ينتقل مركز الثقل في سيرورة العمل الأدبي من المنتج إلى المتلقي، مما يستدعي أن ينتقل مركز اهتمام النقد من إنتاج النصّ إلى تلقيه.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال