شرح وتحليل نص القهوة الخالية لنجيب محفوظ - بيت سيء السمعة



شرح وتحليل نص القهوة الخالية:

النص:

القهوة الخالية، ص- 148.
قال محمد الرشيدي بنبرة أرعشها الحزن والانفعال:
- إلى رحمة الله الرحيم، إلى جوار ربك الكريم يا زاهية يا رفيقة عمري. وانتحب باكيا وهو ينحني فوق الجثة المسجاة على الفراش، حتی رحمته الخادم العجوز فربتت على يده برقة ثم أخذته منها إلى حجرة الجلوس فأسلم نفسه إلى مقعد كبير وهو يتنهد بصوت مسموع. ثم غمغم:
- أنا الآن وحدي، بلا رفيق، لِمَ تركتني يا زاهية ؟

وعزَّته الخادم بعبارات محفوظة غير أن منظر شيخ في التسعين وهو يبكي منظرٌ محزن حقا. التمعت أخاديد خديه بالدموع، فغادرت الخادم الحجرة وهي تجهش في البكاء. وأغمض عينيه وراح يقول:
- منذ أربعين عاما تزوجتك وأنت في العشرين، وكنت خير رفيق، فإلى رحمة الله.
كان ذا صحة جيدة إذا قيس بعمره، طويلا نحيلا، واختفى أديم وجهه تماما تحت التجاعيد والأخاديد، وبرزت عظامه و تحددت كأنها جمجمة، وأَمَّ الجنازة خلق كثيرون جاءوا يعزون ابنه، أما هو فلم يبق من أصحابه على قيد الحياة أحد.

وعندما انفض المأتم زهاء منتصف الليل سأله ابنه صابر:
- ماذا نويت أن تفعل يا أبي؟ وقالت له زوجته ابنه:
- لا يجوز أن تبقى هنا وحدك.. 
أدرك الشيخ ما يقصدان فتشكی قائلا: 
- كانت زاهية كل شيء لي، كان عقلي ويدي..
فقال صابر:
- بيتي هو بيتك، وستحل بحلولك بنا البركة، وستجيء خادمتك مباركة لخدمتك.

ورغم ما يبدي ابنه و وزوجته من شعور طيب فهو يؤمن بأنه - بانتقاله- سيفقد الكثير من حريته وسيادته ولكن ما الحيلة؟!.. وبطرف واجم غادر بيته إلى مصر الجديدة في سيارة ابنه، وهنالك أُعِدَّت حجرة لنومه وتأهبت مباركة العجوز لخدمته وقال له ابنه : نحن جميعا رهن إشارتك..
وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامة ترحاب. روح طيبة حقا ولكنه لا بيت له. ذلك كان الشعور الذي اجتاحه وجلس على مقعده الكبير يبادلها النظرات فيما يشبه الحياء.

وقال صابر: إني أفرغ من عملي مساء ثم أذهب إلى النادي أنا ومنيرة فهل تأتي معنا؟ فقال الشيخ: لا تشغل نفسك بي ودَعِ الأمور تجبر على طبيعتها..
ذهب صابر ومنيرة بالوحدة ليستجم، ولكن الوحدة ثقلت عليه بأسرع مما تصور. وألقى نظرة غير مكترثة على الحجرة ثم طوقته الوحشة.

وعجب للصمت المريح ولكنه أكد لله وحدته. ورجع إلى مجلسه فرأى عند أسفل المقعد قطة صغيرة. فآنس في نظرة عينيها الرماديتين استعدادا للتفاهم. وارتاح إلى نظرتها ثم تابعها وهي تدور حول رجل المقعد وربت على ظهرها.
عند الأصيل عاد صابر من عمله فقال لأبيه:
- ما دمت لا تريد أن تذهب معنا إلى النادي فاختر مقهى في مصر الجديدة، مقاهي مدينتنا جميلة وقريبة من البيت.. قد يكون هذا هو المعقول ولكنه يحب قهوة مَتَاتِيَا. إنها مجلسه المختار طيلة دهر طويل.

ومضى إلى محطة الأوتوبيس، وهو يسير وئيدا، ولكن بقامة مرتفعة ويستعمل العصا ولكنه لا يتوكأ عليها. اتخذ مجلسه بالقهوة وهو يقول لنفسه فيما يشبه المداعبة: "ما بال القهوة خالية!" ولم تكن القهوة خالية، ولكنها خلت من الأصحاب والمعارف.
ومن عادته أن يرنو إلى الكراسي التي حملت قديما الأعزاء الراحلين يتخيل وجوههم وتحركاتهم، والمناقشات حول أخبار السياسة. قضى الله أن يشيعهم واحدا بعد آخر وأن يبكيهم جميعا. وجاء زمن لم يجد فيه من رفيق سوى واحد، هو علي باشا مهران.

وهذا الكرسي كان مجلسه، يجلس عليه قصيرا نحيلا مكوما فوق عصاه وحافة طربوشه تُمَاسُّ حاجيه الأشيبين النافرين، ويرمقه بنظرة هشة شبه دامعة من نظارة كحيلة ثم يتساءل ضاحكا:
- من منا یا تری سيسبق صاحبه؟
كانت يداه قد استوطنتها رعشة الكبر رغم أنه كان يصغره بعامين. ولما مات في الخامسة والثمانين حزن عليه طويلا، ومن بعده خلت الدنيا وخلت القهوة.

وهاهي العتبة الخضراء تدور كعادتها أمام عينيه الكليلتين ولكنها ميدان جديد. ومَاتَاتِيَا نفسها لم يبق من أصلها إلا الموضع، ولكن أين صاحبها الرومي الودود، وأين النادل ذو الشوارب البلقانية والكراسي المتينة البنيان والمرايا المصقولة؟.
وفي ليلة شم النسيم أحيل إلى المعاش، وسهر ليلتها في مسرح الأزبكية هو ومجموعة من الأصدقاء حيث جلجل صوت الطرب، أما النهار فقد قضوه في القناطر الخيرية محتفلين بوداعه وألقى الشيخ إبراهيم زناتي قصيدة بالمناسبة.

ولما نام آخر الليل حلم بأنه يلعب في الجنة، ودعا له صديقه إبراهيم زناتي بمائة عام من العمر المديد في قصيدته، والدعوة يبدو أنها ستستجاب، ولكن القهوة خالية.
والشيخ زناتي نفسه رحل وهو ما يزال في الخدمة. واقترب النادل منه ليأخذ الصينية ولكنه تراجع كالمعتذر، فذكره بفنجان القهوة المنسي الذي لم يمسه.

وعندما رجع إلى البيت وجده راقدا في السكون، وصاحبه لم بعد من النادي، غير ملابسه في بطء وجهد ودون معاونة أحد وجلس لتناول العشاء فتذكر القطة. لو تشاركه القطة الصغيرة عشاءه ! .. ما ألطف أن يوثق علاقته بها فهي ستكون أنيسه الحقيقي في هذا البيت المشغول بنفسه.
بيت سيء السمعة
نجيب محفوظ

صاحب النص:

نجيب محفوظ، روائي مصري ولد سنة 1912، له أعمال روائية..ت 2006

نوعية النص:

نص سردي قصة.

مصدر النص:

بيت سيء السمعة (مجموعة قصصية).

الاتجاه الأدبي:

وصف التحولات التي يعرفها المجتمع المصري.

اللغة:

رتبت: ضربت بكفها يده ضربة خفيفة.
أديم: الجلد.
يرنو: ينظر برفق.
الكليلتين: الضعيفتين.

الفكرة المحورية:

انتقال الرشيدي بعد وفاة زوجته إلى بيت ابنه، وغحساسه بالغربة في كل مكان، حتى في المقهى التي كان يرتادها..

أحداث القصة:

1- وفاة الزوجة، وطلب الابن وزوجته من الرشيدي أن ينتقل معهم إلى بيتهم في مصر الجديدة.
2- افتقاده الحرية وسيادته على مسكنه.
3- شعوره بالوحدة والغربة رغم تردده على قهوة ماتاتيا القديمة التي وجدها خالية من أصدقائه.
4- استئناسه بالقطة بعد أن وجد المننزل راقدا في سكون.

الخطاطة السردية:

- بداية النص: معاناة محمد الرشيد في سن الشيخوخة.
- المحرك: وفاة الزوجة  زاهية.
- الحدث: مغادرة بيته إلى بيت ابنه.
- العقدة: الشعور بالوحدة والغربية.
- الحل/الانفراج:   الاستئناس بالقطة استرجاع الذكريات 
          

مكونات القصة:

- القوى الفاعلية: محمد/ الرشيد /زاهية/ صابر/ منيرة /مبارك /القطة.
- الزمان: الحاضر.
- المكان: المقهى – القاهرة – مصر الجديدة – منزل الابن – النادي.

البنية السردية:

- ضمير السرد:
يسرد الكاتب –نجيب محفوظ – قصته من زاوية الراوي العالم بكل شيء إلى درجة أن صوت الكاتب يختلط بصوت البطل نفسه.

الرؤية السردية:

الرؤية من الخلف؟ لأن السارد استعمل ضمير الغائب، بالإضافة إلى أنه يعلم أكثر من الشخصية.
- جملة سردية: ذهب صابر و منير، فرحب بالوحدة ..
- جملة وصفية: كان ذا صحة جيدة...طويلا، نحيلا.
- الحوار: حوار خارجي: ماذا نويت أن تفعل يا أبي .../ 
- حوار داخلي: أنا الآن وحدي، بلا رفيق لم تركتني يا زاهية.

الأبعاد الاجتماعية للقص:

- الزوجة نواة الأسرة.
- الحنين إلى الماضي.
- صعوبة تواصل الشيوخ مع الشباب.
- الحيوانات الأليفة أنيس للإنسان.
- اختلاف العقليات بين الصغار و الكبار.

المغزى العام من النص:

يظهر النص القيمة التاريخية للآثار والتحف القديمة، وإصرار بعض العلماء الأجانب على اقتناء كل ما يعكس ويخلد حضارتنا القديمة، ويبرز إهمال الجانب العربي وخاصة المصري لمثل هذه الجوانب المهمة في الحفاظ على التراث والتاريخ.