الأدب المقارن ونظرية التلقي.. النقد الذوقي بطبيعته غير قابل للتقعيد والمنهجة والعلمنة بل هو نقد ذاتي صرف قواعده وقيمه غير مكتوبة

في أواخر الستينيات من هذا القرن حدث "تحول أنموذج" آخر في النقد الأدبي، أسفر عن اتجاه جديد يعرف "بنظرية التلقي" أو "جمالية التلقي" (Rezeptionsaesthetik).

لقد قام هذا الاتجاه النقدي بنقل مركز الاهتمام من إنتاج الأعمال الأدبية وجماليته (Produktionsaesthetik)  إلى تلقي الأعمال الأدبية وجماليته.

كان اهتمام النقد الأدبي منصباً قبل ذلك على الجوانب الإنتاجية للعمل الأدبي، سيرية كانت أم نفسية أم بيئية، وعلى البنية الفنية للنصّ الأدبي، وذلك انطلاقاً من قناعة ضمنية مفادها أنّ النصوص الأدبية يمكن أن تدرس بصورة "موضوعية" أو "علمية"، بمعزل عن الدور الذي تضطلع به شخصية الدارس.

صحيح أنّ إتجاهاً ذوقياً تأثرياً انطباعياً قد كان واسع الانتشار في صفوف النقاد، ولكنّ الدراسات الأدبية كانت قائمة في الأساس على "جمالية الإنتاج".

كذلك فإنّ المنحى الذوقي التأثري في النقد كان يعدّ منحى غير علمي، ولا يؤخذ على محمل الجدّ.

ولم يقم أنصار هذا الاتجاه بمحاولات جادّة لعلمنته ووضع أسس منهجية له، وكان سقف ما توصّلوا إليه بهذا الشأن هو الحديث عن "ذوق معلل".

وهذا راجع إلى حقيقة أنّ النقد الذوقي بطبيعته غير قابل للتقعيد والمنهجة والعلمنة، بل هو نقد ذاتي صرف، قواعده وقيمه "غير مكتوبة في الأرض ولا في السماء"، يقوم على حدس الناقد أو "ملكته" أو "غريزية" أو "قوة تمييز فطرية".

إنّ نقداً كهذا يفقد "ذوقيته" بمجرد تقعيده وإخضاعه لأسس منهجية، لذلك لم يُتخذ النقد الذوقي الانطباعي منطلقاً لدراسة مسائل التلقي، ولم يفضِ إلى هذا النوع من الدراسات.

لقد كان التلقي معروفاً، ولكنه لم يكن موضع اهتمام النقاد الذين كانوا يعلمون أنّ العمل الأدبي يُقرأ، وأنّ انتشاره يتوقف على أذواق القراء؛ إلا أنّ النقاد كانوا يرون في الذوق مسألة اجتماعية لاتدخل في اختصاصهم بل في اختصاص علم الاجتماع أو "سوسيولوجيا الأدب".

وعندما يأخذ الناقد المتلقي في الحسبان، فإنه يطمح لأن يهديه إلى الآثار الأدبية الجيدة ليقبل عليها، ولأن يحذره من الأعمال السيئة الرديئة ليتجنبها.

لقد كان النقد يطمح إلى "الإرتقاء" بأذواق القراء، ولكنه لم يولِ اهتماماً لعملية القراءة أو التلقي نفسها، ولم يعِ ما تنطوي عليه تلك العملية من أبعاد.

كما لم تغب عن الأذهان حقيقة أنّ تفسير العمل الأدبي يختلف من ناقد لآخر، وأنّ هناك تفسيرات متعددة لعمل أدبي واحد.

إلاّ أنّ مسائل كهذه لم تستوقف النقاد الذين كان اهتمامهم منصباً على "إنتاج" العمل الأدبي ومايرتبط به من قضايا.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال