نظرية التلقي المنتج أو الإبداعي.. دراسات التلقي الميدانية التي تستقصي انتشار الكتب الأدبية وأذواق الجمهور واتجاهات القراء

ميزت نظرية التلقي بين أشكال مختلفة من التلقي.
فمن التلقي ما هو قرّائي، يمارسه القارئ العادي الذي يتلقى العمل الأدبي، فيتفاعل معه ويستمتع به جمالياً، ويتسع أفقه نتيجة للتلقي الذي قام به، وتنتهي الأمور عند هذا الحدّ.

إنّ هذا النوع من التلقي لا يعني الأدب المقارن كثيراً، بقدر ما يعني دراسات التلقي الميدانية (Empirische Rezeption)  التي تستقصي انتشار الكتب الأدبية وأذواق الجمهور واتجاهات القراء.

أمّا النوع الثاني من التلقي، وهو النوع الأهمّ بالنسبة للأدب المقارن، فهو التلقي المنتج أو الإبداعي، الذي يمارسه الأدباء.

فهم لا يتلقون الأعمال الأدبية لمجرد أن يستمتعوا بها ويقوموا بتجاربهم الجمالية، بل يتلقونها للإستفادة منها إبداعياً وإنتاجياً، إن لناحية الشكل أو لناحية المضمون.

إنّ تلقياً كهذا يؤدي إلى تطوير الإبداع الأدبي وتجديده، وهو النوع الذي كان الأدب المقارن التقليدي يسميه تأثيراً.
أكلّ ما في الأمر إذن هو استبدال مصطلح قديم هو مصطلح "التأثير"، بمصطلح جديد هو "التلقي المنتج الإبداعي"؟

من المؤكد أنّ المسألة ليست مسألة استبدال مصطلح بآخر، فالفرق بين المفهومين فرق جوهري. إنّ مفهوم "التلقي الإبداعي" يعني أنّ المتلقي هو محور هذا النشاط وذاته، وهو يتلقى  إبداعياً بمبادرة منه، ووفقاً لحاجاته ومتطلباته وأفقه.

أمّا مفهوم "التأثير" فهو ينطوي على معانٍ ومضامين مغايرة تماماً لمعاني التلقي الإبداعي ومضامينه.
فهو يجعل من الطرف المتأثر طرفاً سلبياً منفعلاً، وينسب الدور الإيجابي كلّه إلى الطرف المؤثّر.

ولذا فإنّ مفهوم "التلقي الإبداعي" هو المفهوم النظري الأكثر ملائمة للتعبير عما كان يسمى "تأثيراً"، وهو المفهوم الذي سدّ كل الثغرات النظرية التي ينطوي عليها مفهوم "التأثير".

لذلك سارع كثير من علماء الأدب المقارن إلى تبنيه، وقاموا انطلاقاً منه بتطوير منهجية مناسبة لدراسة تلقي الآداب إبداعياً خارج حدودها ولغاتها القومية.

لقد كثرت في الفترة الأخيرة الدراسات المقارنة التي تتناول تلقي عمل أدبي أو أعمال أديب ما، أو تيار أدبي، أو اتجاه فكري، في الآداب والثقافات الأجنبية، بعيداً عن الحساسيات والسلبيات التي تنطوي عليها دراسات التأثير والتأثر التقليدية.

وهكذا تحولت دراسات "التلقي الإبداعي" إلى ميدان خصب من ميادين الدراسات الأدبية المقارنة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال