دور التأثير والتأثر والتبادل الأدبي في تطور الآداب عند جيرمونسكي.. الاستفادة من الفلسفة ونظرية الأدب الماركسيتين في إرساء أسس مدرسة جديدة في الأدب المقارن

هل أنكر جيرمونسكي دور التأثير والتأثر والتبادل الأدبي في تطور الآداب؟

إنه لم ينكر ذلك الدور في الواقع، ولكنه وضعه في إطاره وحجمه الصحيحين.
فالتأثر لا يتمّ إلا عندما تكون الثقافة المتأثرة بحاجة إلى المؤثرات الأجنبية، ومستعدة لتلقيها.

فهو لم يكن السبب في ظهور الاتجاه الواقعي في آداب أوروبية وغير أوروبية مختلفة وفي أزمنة مختلفة، وإنما السبب هو أنّ الآداب التي ظهرت فيها الواقعية كانت قد بلغت درجات من التطور الاجتماعي جعلت ظهور أدب واقعي أمراً ضرورياً، وتكونت فيها بذور ذلك الأدب الواقعي.

ثم جاء عامل التأثر والتأثير، أي الاستيراد الثقافي، ليسرّع ذلك التطور ويقويه.
فلو لم تكن الحاجة قائمة في الأدب المتأثر، لما أثمرت عمليات التأثير والتأثر البتة.

إنّ الأساس في تلك العمليات هو حاجة الثقافة المستقبلة، لاحاجة الثقافة المرسلة.
وعلميات الاستيراد الثقافي تخضع لحاجات الطرف المستقبل، وليس العكس.

وبذلك تمكّن جيرمونسكي من استيعاب قضية التأثير والتأثر، ومن وضعها في إطار أكبر، هو دور المؤثرات الخارجية في تطور الأدب.
فللتأثير دور في ذلك التطور، ولكنّ ذلك الدور ليس بدئياً ولا أساسياً.

أما الدور الأساسي فهو للتطور الداخلي للأدب، ذلك التطور الذي يواكب تطور المجتمع. فعندما يتطور المجتمع، فإنّ تطوره يخلق الحاجة إلى تطور أدبي يواكبه، كظهور تيار أدبي، وتأخذ بذور هذا التطور بالظهور داخل الأدب.

وإذا أضيفت إلى ذلك مؤثرات خارجية، فإنها تسرّع ذلك التطور، وتكون كبذرة سقطت في أرض ملائمة خصبة.

أمّا إذا لم يتوافر الشرطان: الاجتماعي والأدبي اللذان يولدان الحاجة إلى المؤثرات الأدبية الخارجية، فإنّ عمليات التأثير والتأثر لاتجدي نفعاً، وتبقى ظاهرة معزولة لاجذور لها.
وبذلك قدّم فيكتور جيرمونسكي مساهمة قيّمة في تفسير ظاهرة التطور والتبادل الأدبيين.

لقد وضع الأمور في نصابها، منسجماً في ذلك مع المقولة الماركسية التي ترى أنّ الدور الحاسم في التطور الأدبي يكون للعوامل الداخلية، أمّا العوامل الخارجية فهي عوامل ثانوية وغير حاسمة، تتوقف فاعليتها على توافر الشروط الداخلية للأدب.

وبذلك خيّب جيرمونسكي آمال دعاة الهيمنة والتوسع الثقافيين، الذين يريدون نشر ثقافاتهم في العالم، وفرضها على الشعوب بأيّ ثمن، دون مراعاة مستويات التطور الاجتماعي والحاجات الثقافية لتلك الشعوب.

إنّ فرص الإمبريالية الثقافية محدودة لأنّها تصطدم بعقبة لاسبيل إلى تذليلها، ألا وهي عدم وجود حاجة إلى ماتسعى الإمبريالية لأن تصدّره إلى العالم العربي مثلاً من سلع ثقافية.

وفي الوقت نفسه خيّب جيرمونسكي آمال دعاة الجمود والانعزال الثقافي.
فالتطور الاجتماعي حتمي ولايمكن إيقافه والحيلولة دون حدوثه، مما يخلق حاجة إلى التطور الثقافي والأدبي، الذي يخلق بدوره حاجة إلى التفاعل مع الثقافات الأجنبية وتلقي مؤثرات منها.

فالمجتمع يتطور بالضرورة، مما يستدعي تطوير الثقافة والتفاعل مع الثقافات الأجنبية خدمة لذلك التطوير.

وبذلك يكون المقارن الروسي فيكتور جيرمونسكي قد قدّم مساهمة قيّمة في نظرية التطور الثقافي الذي يشكّل التطور الأدبي أحد وجوهه.

لقد استفاد جيرمونسكي من الفلسفة ونظرية الأدب الماركسيتين في إرساء أسس مدرسة جديدة في الأدب المقارن، مدرسة أصبحت تعرف بالمدرسة "السلافية"، ونرى أن الأصح هو أن تسمى المدرسة المادية أو الجدلية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال