رحيل يعجل بنهاية العمر.. لا ترحل رجاءً.. فأنت عمري



كانت عقارب الساعة تكاد تلامس السادسة مساءً، حين كنت متربعة على كرسي متواضع في حوش البيت أفك ضفائر الأحلام مرة وأعيدها تارة أخرى متأملة عنان السماء... وأنا في تلك الحالة لمحته يلملم أغراضه والحزن يخيم على وجهه الشاحب... سألته دون وعي... إلى أين؟!!

رد عليّ بكل هدوء وهو لا يزال منشغلاً بجمع أغراضه:
إني راحل عن عالمك الممل... الكئيب... الذي لا أرى فيه غير الحزن... السكون والكسل... أريد العيش في عالم تملؤه الحركة والنشاط... أريد التجول في وسط المصانع.. والنوم على أصوات الورش... أريد العيش في الأسواق التجارية... في أحياء الكادحين ومدمني الكفاح... أريد أن أشم وأستمتع بروائح أوراق الأبحاث والدراسات.

لم أصدق أن هذه الكلمات هي التي تقرع باب مسامعي... وتصيب قلبي في الصميم ... وتسمرت في مكاني...  انتابني ذهول.. شعرت بارتجاف يسيطر على أوصالي... وبرودة تجتاح بقوة كل ذرة في جسمي... فقدت السيطرة على نفسي وصرخت في وجهه... أنت تحاول نزع روحي... لا ترحل أترجاك!!

لقد عقدت عليك كل آمالي... كل أحلامي الوردية... قل لي.. لم تخبرني من قبل بعزمك على الرحيل؟!... لقد منيت نفسي وحكيت لها حكايات, و قرأت لها روايات... أكان ذلك وهماً أم حلماً؟! ... أقنعت نفسي بأنك محقق طلباتي... أهكذا تتخلى عني بسهولة؟!

لا ترحل رجاءً.. فأنت عمري.. أنت ثروتي ورأس مالي.. أنت كل ممتلكاتي... أنت أنفاسي ودقات قلبي... أنت ابتساماتي وضحكاتي... أنت أرق الكلمات وأروعها... لم لا تسمعني.. لم لا تجيبني؟ّ! ألا تحس بمعاناتي؟!.. ألا تقدر دموعي وآهاتي؟!.. ألا ترى ألمي.. ألا تسمع أنيني؟!

مهلاً.. توقف.. لا تتركني... أعطني فرصة لأقدم لك اعتذاري... أرجوك وأتوسل إليك لا تغضب مني... أنا آسفة لانشغالي عنك... أنا نادمة لأني اهتممت بتوافه الأمور... أنا نادمة على كل ساعة... على كل دقيقة وثانية مضت دون أن أفعل شيئاً... انتظر.. سأهديك شوقي... سأهديك حبي... سأهديك باقات الورد بكل ألوانها... سأهديك حباب عيني ... أنظر إليّ سترى عالم البراءة والطهر والنقاء.. أعترف بأنني ساذجة... لقد بح صوتي وتورمت عيناي ... لا تتركني فأنا بحاجة إليك... رحيلك يقربني من القبر... لا ترحل.. فرحيلك يعذبني... ألا ترى كيف أتشبث بثيابك وبأطراف ردائك... لم كل هذا الغرور.. ابق ... سأفرش لك الزهور... الورود.. الفل والياسمين ... وسأرش عليها كل أنواع العطور وسأبخر لك الجو... ابق معي وسأبني لك قصراً.. سألقي لك شعراً.. سأجمع لك كل الخدم والحشم... ابق لأقبل يديك..

ولكنه لم يأبه لتوسلاتي... أي نعم لقد تركني ومضى.. أعطاني ظهره العريض... وسار بخطى ثابتة تملؤها الثقة والعنفوان... ومضى منفخاً صدره ورافعاً أنفه بكل شموخ إلى السماء دون أن يلتفت إليّ ثم قال ماضياً في طريقه:- صحيح أنني ثروة ولكن لمن يستثمرني... أنا ثروة لتاجر ماهر يعرف السوق ويقدر السلعة ويعرف الثمن... ولن أعود إليك.. لذلك وفري دموعك وتوسلاتك ... لست بحاجة إلى حبك وشوقك وعالمك الخيالي... أنت تاجرة مهملة... سيئة الإدارة تعلمي فن المتاجرة... فن التعامل مع الواقع.. التأقلم مع الظروف المستجدة.. تعلمي فن إدارة الوقت تعلمي الابتكار... افهمي الفرق بين الكسب والخسارة وسٌر التجارة... ابحثي عن مدرس أو فاعل خير إن كنت من النوع الذي يعتمد على غيره، أما إن كنت تكتفين بذاتك فلا بأس المهم هو التعلم من الخطأ.. هذه كانت نصيحته قبل أن يختفي عن أنظاري.

وهذا ما دار يوماً من الأيام بيني وبين نهار رحل إلى الأبد حين وجدته يلملم أطياف نور شمسه في شنطة الغروب وراء الأفق البعيد.
هذا هو الوقت.. الزمن... العمر... إنه لا يشعر.. لا يحس إن أردته أن يبقى أم لا ؟ ولكن هذه هي سنة الحياة لقد رحل وإلى الأبد وأنسب تصرف هو استغلاله وليس الرجاء أو التمني أو ذرف الدموع كما فعلت.. لأن الوقت لا يفهم إلا لغة الجدية والعمل والنشاط والإتقان...


المواضيع الأكثر قراءة