نموذج لوصية الأب المربي.. الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عنده الإنفاذ نعمته

لعلك أخي القارئ يا من أصبحت أباً أن تتأمل في وصية عبد الله بن شداد إلى ابنه قبل وفاته، لتجد فيها كلمة جامعة لأصول التربية الأبوية ..
لما حضرت عبد الله بن شداد بن الهاد الوفاة دعا ابنا له يقال له محمد ، فقال : يا بني ، إني أرى داعي الموت لا يقلع ، وأرى من مضى لا يرجع ، ومن بقي فإنه ينزع وإني موصيك بوصية فاحفظها : عليك بتقوى الله العظيم وليكن أولى الأمور بك شكر الله وحسن النية في السر والعلانية ، فإن الشكور يزداد ، والتقوى خير زاد ، وكما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ  ***  ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً  ***  وعند الله للأتقى مزيد
وما لابد أن يأتي قريب  ***  ولكن الذي يمضي بعيد
ثم قال : أي بني، لا تزهدن بمعروف فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب ،وعلى الشاهد والغائب ، فكم من رغب وكان مرغوباً إليه وطالب أصبح مطلوباً ما لديه ، وأعلم أن الزمان ذو ألوان ومن يصخب الزمان يرى الهوان ، فكن بُني كما قال الأسود الدؤلي :
وعد من الرحمن فضلاً ونعمة  ***  عليك إذا ما جاء للعرف طالب
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده  ***  يكن هيناً ثقيلاً على من يصاحب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالباً  *** فإنك لا تدري متى أنت راغب
رأيت التوا هذا الزمان بأهله  ***  وبينهم فيه تكون النوائب
ثم قال: أي بني، كن جواداً بالمال في موضع الحق ، وبخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق ، فإن أحمد جود المرء : الإنفاق في وجه البر ، وإن أحمد بخل الحر : الضمن بمكتوم السر، وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري:
أجود بمكنون التلاد وإنني  ***  بسرك عمن سألني لضنين
إذا جاوز الاثنين سر فإنه  ***  بنت وتكثير الحديث قمين
وعندي له يوماً إذا ما ائتمنتني  ***  مكان بسوداء الفؤاد مكين
ثم قال : أي بني، إن غلبت يوماً على المال فلا تدع الحيلة على حال ، فإن الكريم يحتال ، والدني عيال ، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً ، وأقل ما تكون في الباطن مالاً ، فإن الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عنده الإنفاذ نعمته، وكن كما قال ابن خذاق العبدي:
وجد أبي قد أورثه أبوه  ***  خلالاً قد تعد من المعالي
فأكرم ما تكون علي نفسي  ***  إذا ما قل في الأزمات مالي
فتحس سيرتي وأصون عرضي  ***  ويجمل عند أهل الرأي حالي
وإن نلت الغنى لم أغل فيه  ***  ولم أخصص بجفوني الموالي
ثم قال : أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد ، فكن كأنك لست بالشاهد ، فإنك إن أمضيتها حيالها ، رجع العيب على من قالها ، وكان يقال : الأريب العاقل ، هو الفطن  المتغافل، وكن كما قال حاتم الطائي:
ومال من شيمتي شتم ابن عمي *** وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد في غير جرم *** سمعت فقلت مري فانفذيني
فعابوها علي ولم تسوئني ***  ولم يعرق لها يوماً جبيني
وذو اللونين يلقاني طليقاً  *** وليس إذا تغيب يأتليني
قال أبو علي: ما ألوت : ما قصرت، وما ألوت يعني ما استطعت
سمعت بعيبه فصفحت عنه *** محافظة على حسبي وديني
قال أبو علي: ويروى : سمعت بغيبة . ثم قال : أي بني، لا تواخ امرأً حتى تعاشره ، وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة ، ورضيت الخبرة ، فواخه على إقالة العثرة ، والمواساة في العسرة ، وكن كما قال المقنع الكندي:
أُبل الرجال إذا أرت إخاءهم  ***  وتوسمن فعالهم وتفقد
وفيه ظفرت بذي اللبابة والتقى  ***  فيه اليدين قرير عين فاشدد
وإذا رأيت ولا محالة زلة   ***  فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
ثم قال:أي بني، إذا أحببت فلا تفرط ، وإذا أبغضت فلا تشطط، فإنه قد كان يقال : أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
وكن كما قال هدبه بن الخشرم العذري:
وكن معقلاً للحلم واصفح عن الخنا  *** فإنك راء ما حييت وسامع
وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً  ***  فإنك لا تدري متي أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً  ***  فإنك لا تدري متى أنت راجع
وعليك بصحبة الأخيار وصدق الحديث ، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار، وكن كما قال الشاعر:
اصحب الأخيار وراغب فيهم  *** رب من أصحبته مثل الجرب
ودع الناس فلا تشتمهم *** وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب
إن من شاتم وغدا كالذي *** يشتري الصفر بأعيان الذهب
واصدق الناس إذا  حدثتهم *** ودع الناس فمن شاء كذب
فما أجمل أن يزود كل أب عاقل ابنه بمثل تلك الآداب وهذه الوصايا القيمة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال