التطرف بشبكة الإنترنت.. الحرب على الإرهاب تنقل ميدان المبارزة إلى شاشات الحواسيب

ليس من السهولة في شيء تحديد عدد الحركات المتطرفة الموجودة في العالم، ولا حصر المواقع والمدونات والبوابات والمنتديات الثاوية خلفها بشبكة الإنترنت.

الصعوبة متأتية هنا من هلامية عبارة التطرف ذاتها (وعبارة الإرهاب أيضا)، ومتأتية بالأساس من حركية ذات المواقع، وتغير عناوينها بانتظام، وانتقالها من فضاء إلى فضاء، ثم داخل الشبكة من موقع إلى موقع، وهكذا.

وعلى الرغم من ذلك، فالإحصاءات تؤكد أنه كان بالعام 1998، لنصف المجموعات المصنفة إرهابية من لدن الولايات المتحدة الأمريكية، مواقع على الإنترنت.

وفي العام 2000، كانت تتوفر، في معظمها، على موطئ قدم بالشبكة، بهذه الصورة أو تلك (بموقع رسمي أو بمدونة أو ببوابة أو بما سواها).

الإحصاءات هنا لا تضع تمييزا بين تنظيم وآخر، ولا بين الناشط عمليا ضمنها، والناشط بالخطاب فقط، بل تأخذها كلها بعين الاعتبار، بما فيها 'المواقع الجهادية' التي أنشأتها جماعات ما يسمى بـ'الإسلام السياسي الراديكالي'.

جل هذه المواقع (تقدرها الإحصاءات ما بين 4000 و6000 موقع) تركز على الجانب الإيديولوجي، وعلى الأهداف، وتمحور خطابها بجهة الانتقادات والتهديدات الموجهة للخصوم والأعداء، ناهيك عن المواقع 'المتخصصة' في التجنيد النفسي، والشحن العاطفي الهادفة لاستقطاب واجتذاب أعضاء جدد.

لا نستطيع الجزم بأن ثمة تلازما بين ظهور الإنترنت وتوظيفه المباشر من لدن الحركات المتطرفة، لكن الثابت أنه منذ أحداث 11 ايلول/سبتمبر من العام 2001.

وبأعقاب غزو العراق بالعام 2003، تزايد عدد ونشاط ذات الحركات، واتسع نطاق لجوئها للإنترنت، بل باتت هذه الأخيرة نافذتها الأساس على العالم، بالكلمة أو بالصوت أو بالصورة، أو بهم مجتمعين، وبالعديد من لغات العالم.

إن 'الطابع العسكري' للإرهاب الجديد (للإرهاب عبر الشبكة أقصد)، إنما يتم باستخدام الإنترنت في التنقيب عن المعلومات، والحصول على التمويل والتبرعات، وعملية التجنيد والحشد لاتباعها، وكذلك تحقيق الترابط التنظيمي بين الجماعات وداخلها، وتبادل المعلومات، والأفكار، والمقترحات والمعلومات الميدانية، حول كيفية إصابة الهدف، واختراقه، وكيفية صنع المتفجرات والتخطيط، والتنسيق للعمل الإرهابي.

وكذلك في تدمير مواقع الإنترنت المضادة، أو اختراق مؤسسات حيوية، أو تعطيل الخدمات الحكومية الإلكترونية، أو محطات الطاقة أو غيرها.

بالمقابل، فإن التركيز على العامل الأمني لوحده بغاية محاربة هذه الحركات، قد أدى إلى نتائج عكسية واضحة.

فعندما انطلقت الطائرات الأمريكية لضرب أفغانستان، انطلقت معها حركة تنظيم القاعدة على الإنترنت، والمنظمات الأخرى الحليفة له، لتكتمل تلك الحلقة باحتلال العراق، وليكتسب تنظيم القاعدة أرضا جديدة، لبث أفكاره التنظيمية المعادية للولايات المتحدة وللغرب بوجه عام.

من هنا، فقد زادت المواقع الموالية لتنظيم القاعدة على الإنترنت من 13 موقعا عام 2001 لتصل إلى ما يقارب 2000 موقع، وفق بعض التقديرات.

إن غاية وأهداف لجوء الحركات المتطرفة لشبكة الإنترنت، إنما تتحدد في طبيعة الحروب الافتراضية التي أعلنتها هذه الحركات على الدول والحكومات، إما بالتوازي مع عملياتها على الأرض، أو بامتداد لذات العمليات بالزمن والمكان:

- هو لجوء كأداة حرب نفسية لإشاعة الرعب، عبر مزج دقيق ومدروس بين الخبر والإشاعة، بين المعلومة والتضليل.

فبين الوعيد والتهديد بالاستهداف، تنجح هذه الحركات في إفزاع خصومها (وشعوبهم أيضا)، وتركهم جميعا يعيشون تحت ضغط جحيم التهديد اللامتناهي.

لا تقتصر هذه الحرب على هذا الجانب، بل يتم تكريسها بفظاعة الصورة، كما شاهدنا ذلك أثناء ذبح الرهينتين الأمريكيتين بالعراق، نيك بيرغ ودانيال بيرل، من لدن تنظيم القاعدة بالعراق، والذي تدوولت لقطاته بالإنترنت على نطاق واسع.

- وهو لجوء بصيغة حرب شبه معلنة، تتغيأ استنبات 'ثقافة الجهاد والاستشهاد'، سيما عندما تروج ذات التنظيمات بمواقعها، لوصايا منفذي العمليات، و'سمو مقامهم ومرتبتهم عند الله'، أو 'للبطولات' التي أنجزوها ضد العدو، المعلن منه كما المبطن، القائم منه كما القادم.

- وهو لجوء بمظهر أداة للإشهار، وإبراز القدرة على التكيف مع التكنولوجيا، وكذلك لأطروحة أن 'سبيل الجهاد والعنف هو السبيل الأنجع'، لبلوغ الأهداف وإدراك الشهادة.

- ثم إن الشبكة كنز معلومات ضخم بالنسبة لهذه الحركات، تسهل عليها تحديد المواقع المراد استهدافها، من نظم اتصالات، وخرائط المرافق العمومية، ومكان تواجد الأجهزة النووية، والموانئ والمطارات، وشبكات الماء والكهرباء، والنظام البنكي، والصناعات العسكرية وما سوى ذلك.

ولعل بوابة غوغل (غوغل إيرث تحديدا) غنية بالمعلومات والمعطيات والبيانات من هذا القبيل.

إلى جانب كل هذا، فالشبكة تمنح هذه الحركات سبل تقاسم المعلومات الاستراتيجية والحيوية مع أعضائها، أو ممن يتطلعون للالتحاق بها، حيث نجد بمواقعها وثائق من قبيل 'دليل الإرهابي'، و'كيف تصمم قنبلة'، و'موسوعة الجهاد'، ناهيك عن وسائل التدريب، ومسلكيات الالتحاق بهذه الحركات وما سواها.

ثم إن هذه الأخيرة غالبا ما تنجح في توظيف الشبكة لاستكشاف طرق جديدة لضمان التمويل، أو لإيصاله إلى أعضاء التنظيم، الموزعين عالميا، أو تحويله للجهات التي تؤمن لها الذخيرة والعتاد.

إلا أن الميزة الأهم للإنترنت إنما مساعدته هذه الحركات على خلق مجتمع افتراضي، يمكن مجموعة قليلة جدا من الناس متوزعة جغرافيا، من أن تكون مجتمعا خاصا بها، يساعدها على الالتحام والتواصل الدائمين.

من جهة أخرى، فإن الملاحظ، بظل ما سبق، أن معظم مواقع الحركات المتطرفة بالإنترنت غالبا ما تلجأ إلى خدمات مزودي الإنترنت الأمريكيين، من خلال نهج سبل معقدة وملتوية، للتخفي والتحايل على المراقبة والترصد، من قبيل اللجوء إلى عشرات المتعهدين، أو اعتماد تسميات ونعوت مستعارة.

إذا علمنا أن مزودي الخدمات الأمريكان يبيعون خدماتهم بالجملة وبكل أرجاء المعمورة، وبأن الحركات إياها تتخفى خلف مسميات شتى، فإنه من السهل إدراك أنه من الصعوبة بمكان تحديد هذه المواقع، أو طبيعة الثاوين خلفها قانونا، حتى وإن كان ذلك ممكنا من الناحية العملية الصرفة.

أضف إلى ذلك أن تحكم 'مهندسي' هذه الحركات في الآليات المعلوماتية وتقنيات الشبكة، يجعلهم يتحايلون على وسائل التشفير والرصد، ليس فقط بتغيير المواقع، بل وبالتخفي داخل مواقع ومدونات وبمنتديات يصعب التفكير في مدى لجوء الحركات إليها، كالمواقع السياحية مثلا، أو الترفيهية، أو الجنسية والإباحية في العديد منها.

بالتالي، فالشبكة باتت 'قاعدة' بكل المقاييس، بداخلها تحدد الاستراتيجية والوسائل، وعبرها يتم التنسيق، ومن خلالها تتحدد طرق التنفيذ والتبني بالمحصلة.
يحيى اليحياوي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال