استمرار قطاع الاقتصاد الصناعي ومستقبله بدون الزراعة في المجتمعات الغربية.. قطاع صناعي ضئيل الحجم عدديا يفرغ البلاد من مادّتها أو جوهرها

عندما كان رونالد ريغان مايزال يحتل البيت الأبيض، اجتمع فريق صغير ذات يوم حول طاولة غرفة الطعام العائلية" للنقاش حول المستقبل البعيد للولايات المتحدة.
وكان بين هؤلاء ثمانية من علماء المستقبل (يعني المختصين بشؤون المستقبل).

وانضم إليهم نائب الرئيس وثلاثة مستشارين كبار للرئيس، منهم دونالد ريغان، الذي كان قد عيّن منذ فترة قصيرة، كرئيس لمجموعة موظفي القصر الأبيض.

وكان الاجتماع قد نُظِّم من قبل (أو على يد) مؤلفي هذه السطور، بناءاً على طلب من البيت الأبيض: وانفتح الاجتماع على ملاحظة مشتركة هي أنه إذا كان علماء المستقبل يختلفون اختلافاً كبيراً حول عدد من المشكلات التقنية، والاجتماعية، والسياسية، فإنهم كانوا مؤتلفين جميعاً في التفكير بأن الاقتصاد الأمريكي على وشك أن يعاني تغيراً عميقاً.

 وماكاد هذا الرأي يُعبر عنه، حتى انبرى  رونالد ريغان، ليقول بعنف: "وإذن - وقال هذا متعجباً- أتظنون أننا سنعيش وبعضنا يقص للبعض الآخر شعره، أو سنعيش ونقطع الهمبورغر للأكلين؟! وأننا لن نكون أبداً دولة صناعية؟!

وكان الرئيس ونائب الرئيس ينظران إلى كل الجهات بانتظار جواب ما.
ولكن الضيوف الذكور كانوا يظهرون وكأنهم مذهولون، في أكثريتهم، مما ظهر في هذا الهجوم من مفاجأة وعنف.

وكانت هيدي توفلر هي التي ردّت على هذا التحدّي، وقالت: كلا أيها السيد ريغان، وتذرعت بالصبر. ثم أضافت القول. إن الولايات المتحدة ستبقى دولة عظمى. والفرق هو أن الأشخاص الذين سيعملون في المعامل، سيكونون - أقل بقليل من عددهم الآن..".

ثم أنها بعد أن شرحت مايفصل طرائق العمل التقليدية عن تلك التي تصلح لإنتاج الماسينتوش MACINTOSH ([1]) ذكرت أن الولايات المتحدة كانت، بلا أدنى ريب، واحدة من كبرى مصادر المنتجات الغذائية في العالم، على الرغم من أن الزراعة تشغلُ ما هو أقل من 2%  من الشعب العامل.

والواقع أنه في القرن الماضي، كلما تضاءل عدد العاملين في الزراعة، كانت هذه تعزّز مواقفها، ولا تتراجع. فلماذا لا يكون الأمر كذلك في القطاع الصناعي؟!

والحقيقة أن مما يبعثُ على الدهشة، هو أن حجم الاستخدام الصناعي في الولايات المتحدة، بعد طلعات ونزلات، كان عام 1988 مثله عام 1968 تقريباً، أي أكثر بقليل من 19 مليون شخص.وكانت -الصناعة عام 1988 تساهم في الدخل القومي، كما كانت تفعل قبل ثلاثين سنة: ولكنها كانت تفعل ذلك، بجزء أقل، من الشعب العامل.

ومن جهة أخرى، فإن ماحدث بعد ذلك شيء مكتوّبٌ، سهلٌ على الشرح. ذلك أن الشعب الأمريكي، من جهة أولى، وقسْمَهُ العامل من جهة ثانية، كان لهما أن يتابعها النمو كل المتابعة، ومن جهة أخرى فإن فريقاً كبيراً من الصناعيين أعادوا تنظيم صناعاتهم وأتمتوا طرق إنتاجهم في الثمانينات، وكان طبيعياً أن تهبط نسبة العاملين في الصناعة، بالنسبة إلى القطاعات الأخرى.

وتبعاً لبعض التقديرات، يكون على البلاد أن تنشئ في السنوات العشر اللاحقة مالا يقل عن عشرة آلاف فرصة عمل، في اليوم الواحد، إلا أن قسماً قليلاً جداً من هذه، يمضي إلى القطاع الصناعي- وربما لن يكون هناك أية فرصة ولا ينبغي أن يوجد أية فرصة. وقد حدث مثل هذا التطوّر في اقتصادات اليابان، وأوروبا، (الغربية طبعاً).

بيد أننا نسمع أحياناً، مايشبه كلمات رونالد ريغان من فم الناس الصناعيين، عندما تكون مؤسساتهم لا تُدار إدارة حسنة، أو من فم بعض النقابيين الذين يرون أعداد عمالهم تتناقص بقوة، أو على لسان بعض رجال الاقتصاد أو المؤرخين الذين يَدُقون الطبول لحساب العظمة الصناعية- تماماً كما لو أن أحداً ما، صرّح ذات يوم أنه يريد تخفيض الصناعة.

وهناك وراء أكثر مايقال ويكتب، شعور من نوع ما، بأن الاستخدام في الأعمال اليدوية، أساساً، إذ ينتقل بالدرجة الأولى، إلى قطاع الخدمات والمهن الفكرية، لابُدَّ بصورة أو بأخرى، وأن يضير الاقتصاد في مجموعه، وأن قطاعاً صناعياً ضئيل الحجم (بمصطلحات عدد الوظائف أو فرص العمل) "يفرغ" البلاد من مادّتها أو جوهرها.

وهذا مايذكرِّ بتصورات الفيزيوقراطيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، الذين كانوا لا يستطيعون تخيل قطاع الاقتصاد الصناعي ومستقبله بدون الزراعة لأنها هي النشاط المنتج الوحيد.
([1]) أردية للوقاية من المطر

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال