تحول السلطة بعد الصدمة المستقبلية والموجة الثالثة.. صعود نظام جديد للسلطة ليحل محل نظام سلطة الماضي الصناعي

كتاب (تحول السلطة) هو تتويج لجهد امتد خمسة وعشرين عاماً واستهدف الخروج بمعنى من التغيرات المذهلة التي تدفعنا إلى القرن الحادي والعشرين. وهو الجزء الثالث والأخير لثلاثية بدأت بكتاب (صدمة المستقبل)، أو (الصدمة المستقبلية)، واستمرت بكتاب (الموجة الثالثة) وهاهي تكتمل الآن بهذا الكتاب.

ويمكن قراءة كل من هذه الكتب الثلاثة على حدة كعمل مستقل. بيد أنها تشكل معاً مجموعة متصلة فكرياً.
فموضوعها الرئيسي هو التغيير – أي ما يحدث للناس عندما يتبدَّل مجتمعهم برمته على حين فجأة إلى شئ جديد غير متوقع.

ويمضي كتاب (تحول السلطة) قدماً بما سبق إجراؤه من تحليل في الكتابين السالفين مع التركيز على صعود نظام جديد للسلطة ليحل محل نظام سلطة الماضي الصناعي.

عند وصفها لتغيرات اليوم المتسارعة تطلق وسائل الإعلام علينا صوراً خاطفة من المعلومات غير المترابطة؛ ويغمرنا الخبراء بطوفان من الرسائل والدراسات الموغلة في التخصص؛ ويقدم المتنبئون قوائم باتجاهات لايجمعها جامع ولانموذج يبيَّن لنا الروابط التي تصل  بينها أو القوى التي يرجح أن تجعلها تنعكس. والنتيجة هي أن التغيير نفسه بات يرى كشيء تحكمه الفوضى،  بل والجنون.

أما هذه الثلاثية فإنها، على النقيض، تبدأ من الافتراض بأن تغيرات اليوم السريعة ليست فوضوية أو عشوائية كما تكيفنا على الاعتقاد، وتذهب إلى القول بأن العناوين البارزة وغيرها مماتغمرنا به وسائل الإعلام وخلافها لاتخفي وراءها أنماطاً متميزة فحسب، بل أيضا قوى قابلة للتحديد تعمل على تشكيل هذه الأنماط.
وعندما نفهم هذه الأنماط والقوى يصبح من الممكن التعامل معها استراتيجياً وليس اعتسافاً على أساس واحدة فواحدة.

بيد أننا لكي نجد معنى لتغيرات اليوم الكبرى، لكي نفكر بطريقة استراتيجية، نحتاج الى ماهو أكثر من البيانات الجافة والصور الخاطفة وقوائم الاتجاهات والتوقعات.

إننا في حاجة إلى أن نرى الكيفية التي ترتبط بها التغيرات مع بعضها. لذات فإن كتاب (تحول السلطة)، شأنه في ذلك سلفيه، يضع تركيبة واضحــة وشاملة – صورة انطباعية ممتدة للمدينة الجديدة التي تنعم المعمورة الآن.

إذن فهو يركز على نقط الوميض المستقبلية، أي النزاعات التي تواجهنا فيما تصطدم المدينة الجديدة بالقوى الراسخة للمدينة القديمة. ويرى كتاب (تحول السلطة) أن عمليات استيلاء الشركات على بعضها (Takeovers) وعمليات إعادة هيكلتها التي شهدناها حتى الآن ليست سوى الطلقات الأولى فيما سيأتي من معارك تجارية كبرى ومستحدثة تماماً.

والأهم من ذلك أنه يرى أن الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي هي مجرد مناوشات إذا قورنت بما ستتمخض عنه الأيام من صراعات دولية حول السلطة... وأن المنافسة بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان لم تصل بعد إلى كامل  عنفوانها.

وبإيجاز، فإن كتاب (تحول السلطة) يتناول صراعات السلطة المتصاعدة التي لاتزال تواجهنا فيما تفقد المدنية الصناعية هيمنتها على العامل وتبرز قوى جديدة لتعلو في الأرض.

يمثل كتاب (تحول السلطة)، بالنسبة لي، نقطة شاهقة تمَّ الوصول إليها بعد رحلة مشوّقة.
لكن قبل الاستطراد يتعيَّن ذكر ملاحظة شخصية هنا، وهي أنني لم أقم بتلك الرحلة وحدي.
فهذه الثلاثية برمتها، منذ بدئها إلى اكتمالها، شارك في تأليفها شخص آثر أن يبقى في الظل. لقد كان هذا العمل ثمرة جهد مشترك لعقلين، وليس لعقلي فحسب، وإن كنت قد اضطلعت بمهمة الكتابة الفعلية وتلقيت المدح والقدح عن كلينا.

هذا المؤلف المشارك لي، كما يعلم الكثيرون الآن، هو صديقتي المفضلة وزوجتي وشريكتي وحبي على مدى أربعين عاماً: هايدي توفلر، التي لولا ذكاؤها النزّاع إلى الشك وبصيرتها الفكرية وإحساسها التحريري المرهف وسداد أحكامها العامة حول الأفكار والناس على حد سواء، لكانت مثالب هذه الثلاثية،  أياً كانت، أخطر بكثير. ولم يقتصر إسهامها على الصقل النهائي، بلا أمتد إلى صياغة النماذج الأساسية التي قامت عليها الكتب الثلاثية.

ومع أن كثافة اشتراكها تفاوتت من حين إلى آخر، وفقاً لالتزاماتها الأخرى، إلاَّ أنها شاركت في كل المراحل التي اقتضتها هذه الكتب من رحلات وبحوث ومقابلات مع مئات الأشخاص حول العالم، وفي العناية بالتنظيم ووضع المسودات متبوعاً بما لايحصى من عمليات التحديث والمراجعة.

لكن مع ذلك تقرر نسب هذه الأعمال إلى كاتبها الفعلي فقط لأسباب خصوصية جزئياً واجتماعية واقتصادية جزئياً – وكلها تفاوتت في أوقات مختلفة على مدى العقدين الماضيين.

وترفض هايدي، حتى في الوقت الراهن، أن تعير اسمها لغلاف كتاب ما بدافع النزاهة والتواضع والحب-  وهي أسباب تبدو كافية بالنسب لها، وإن لم تكن كذلك بالنسبة لي. وأنا لا أملك إلا أن أصلح هذا الخـلل بهــذه الكلمات الشخصية الاستهلالية: إنني أشــعر بأن الثلاثية لها بقدر ما هي لي.

كل هذه الكتب الثلاثة تستكشف عمراً كاملاً – فترة تبدأ لنقل من منتصف الخمسينيات وتنتهي تقريبا ًبعد ذلك بخمس وسبعين سنة، أي  في عام 2025.

ويمكن تسمية هذه المدة الزمنية بمفصل التاريخ، لكونها تشهد استبدالاً نهائياً لمدينة المصانع ذات المداخـن، التي سادت الأرض لقرون، بأخـــرى مختلفة  عنها اختلافاً كبيراً، وذلك بعد فترة من الصراعات حول السلطة مزلزلة للعالم.

لكن على الرغم من أن الكتب الثلاثة تركز على نفس الفترة إلاَّ أن كل منها يستخدم عدسة مختلفة لكشف ماتحت سطح الحقيقة. وقد يكون من المفيد للقارئ تحديد الفروق بينها.

فكتاب (صدمة المستقبل) (Future Shock) ينظر إلى عملية التغيير نفسها- كيف يؤثر التغيير على الناس والتنظيمات؟ أما (الموجة الثالثة) فيركز على اتجاه التغييرات – إلى أين تأخذنا تغييرات اليوم؟ ويتناول (تحول السلطة) مسألة التحكم في التغييرات الآتية بعد – من هم الذين سيشكلونها وكيف؟

لقد عنينا بعبارة (صدمة المستقبل)، في الكتاب الذي حمل هذا الاسم، الإرباك والإجهاد الناشئين من محاولة التعامل مع تغيرات جد عديدة في زمن جد قصير.

وأشار ذلك الكتاب إلى أن تسارع التاريخ ينطوي على نتائجه الخاصة، مستقلاً عن اتجاهات التغيير الفعلية فمجرد تسارع الأحداث ومدد رد الفعل يولد نتائج خاصة به سواء أكانت التغييرات تعد طيبة أو رديئة.

كذلك رأى الكتاب أن الأفراد والتنظيمات وحتى الدول يمكن أن تتعرض لتغيير أكثر من اللازم في مدة أقصر من اللازم، ممايؤدي إلى إرباكها وتعطل قدرتها على اتخاذ قرارات ذكية وتكييفية. وموجز القول إنها يمكن أن تتعرض لصدمة مستقبلية.

وقد خالف كتاب (صدمة المستقبل) الرأي السائد آنذاك عندما أعلن بأن (الأسرة النووية) (أي المؤلفة فقط من أب وأم وأطفالهما) سوف تتصدع عاجلاً.
كذلك تكهن بثورة علم الوراثة وظهور المجتمع المنحل والثورة التعليمية التي قد تكون الآن، بعد طول انتظار، آخذة في البدء.

نُشر هذا الكتاب لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1970 م ثم في سائر العالم، فمس عصباً مكشوفاً وأصبح، بصورة لم تكن متوقعة، من أكثر الكتب مبيعاً على النطاق الدولي وأثار طوفاناً من التعليقات وأضحى، وفقاً لمعهد المعلومات العلمية، من أكثر الأعمال التي يستشهد بها  في كل ماكتب عن العلوم الاجتماعية.

ودخلت عبارة (صدمة المستقبل) في لغة الحياة اليومية واحتلت مكاناً لها في كثير من القواميس، وهي تظهر اليوم بصفة مستمرة في العناوين البارزة.

أما (الموجة الثالثة)، وهو الكتاب التالي الذي ظهر في عام 1980 م، فكان له تركيز مختلف. إذ عُنى بشرح أحدث التغيرات الثورية في التقنية والمجتمع وبوضعها في منظور تاريخي وباستشراف المستقبل الذي يمكن أن تتمخض عنه.

وقد وصف الثورة الزراعية التي حدثت قبل 10 آلاف عام بأنها الموجة الأولى للتغيير التحولي في التاريخ الإنساني، وأطلق على الثورة الصناعية اصطلاح الموجة الثانية، ثم وصف التغييرات الاجتماعية والتكنولوجية الهامة التي بدأت في منتصف الخمسينيات بأنها موجة ثالثة كبرى من موجات التغيير البشري – بداية مدنية جديدة تالية لعصر المصانع ذات المداخن.

وقد أشار، ضمن أشياء أخرى، إلى صناعات جديدة آتية تقوم على الحاسبات الآلية والإلكترونيات والمعلومات والتقنية الحيوية وماشابه، وأطلق على هذه اسم (المرتفعات القيادية الجديدة) للاقتصاد.

وتنبأ بأشياء مثل التصنيع المرن والأسواق الصغيرة الملائمة ( Niche Markets) وانتشار العمل الجزئي (أي غير المتفرغ له)، وتفكك جماعية وسائل الاعلام.
ووصف الالتحام بين المنتج ( PROducer) والمستهلك (conSUMER) وابتدع مصطلح (المنتج المستهلك PROSUMER).
وتناول بالدراسة التحول القادم نحو العودة لأداء بعض العمل في المنزل وغير ذلك من التغييرات في السياسة ونظام الدولة الأمة (Nation - State)، أي ذات القومية الواحدة.

وقد تعرض كتاب (الموجة الثالثة) للحظر في بعض البلدان بينما أمسى في غيرها من أكثر الكتب مبيعاً، وكان يعد لفترة من الزمن (إنجيلا) لمفكري الإصلاح في الصين حيث كان قد اتهم في بادئ الأمر بأنه ينشر (التلوث الروحي) الغربي ثم سمح بتداوله فتم نشره بكميات ضخمة وأضحى – مباشرة بعد أحاديث دينج زياوبنج وخطبه – أوسع الكتب انتشاراً في قطر يعد أكثر بلدان العالم اكتظاظاً بالسكان. وقد عقد (زاوزيانج)، رئيس الوزراء آنذاك، مؤتمرات حول الكتاب وحث واضعي السياسات على دراسته.

وفي بولندا صرَّحت السلطات الشيوعية بنشر موجز له، فثارت ثائرة الطلبة وأنصار نقابة التضامن بسبب الأجزاء المستقطعة وبلغ بهم الحنق أن أقاموا بنشر طبعة كاملة له (تحت الأرض) كما وزعوا كتيبات تحتوي على الفصول المستبعدة.

وقد أوحى (الموجة الثالثة)، شأنه في ذلك شأن (صدمة المستقبل)، بأفكار عديدة لقرائه مما أدى، ضمن أشياء أخرى، إلى ظهور منتجات جديدة وشركات وسيمفونيات، بل وحتى منحوتات.

والآن، بعد عشرين عاماً من (صدمة المستقبل) وعشرة أعوام من (الموجة الثالثة)‘ هاهو (تحول السلطة) قد أصبح جاهزاً... أخيراً.

ويبدأ هذا الكتاب من حيث انتهى سَلَفاه، فيركز على دور المعرفة المتغير تغيراً درامياً فيما يتعلق بالسلطة، ويقدم نظرية جديدة للسلطة الإجتماعية ويستكشف التحولات القادمة في مجالات الأعمال والاقتصاد والسياسة والشؤون الدولية.

ما من ضرورة، فيما يبدو، لأن نستطرد فنقول بأن المستقبل ليس (قابلاً للمعرفة) على معنى التنبؤ المضبوط. فالحياة حافلة بالمفاجآت السريالية.
وحتى النماذج والبيانات (الصلبة) ظاهرياً كثيراً ما تقوم على افتراضات (لينة) خصوصاً حيثما تمس هذه الافتراضات أموراً بشرية.

وفضلاً عن ذلك فإن موضوع هذه الكتب نفسه- التغيير المتسارع – يجعل التفاصيل فيها عرضة للبِلَى. إن الإحصائيات تتغير، وتحل تقنيات أحدث محل الأقدم منها، والقادة السياسيون يصعدون ويسقطون.
ومع ذلك من الأفضل لنا،  ونحن نتقدم نحو مجاهل الغد، أن تكون لدينا خارطة عامة ناقصة على ألاَّ يكون لدينا شئ منها.

على الرغم من أن كل كتاب في الثلاثية يقوم على نموذج يختلف عن نموذجي الكتابين الآخرين، وإن كان يتناغم معهما، إلاَّ أنها جميعاً تعتمد على وثائق وأبحاث وتقارير من ميادين وأقطار مختلفة.
فمثلاً عند إعدادنا لهذا الكتاب حاولنا دراسة السلطة في قمة المجتمع وأعماقه.

فقد أتيحت لنا الفرصة للالتقاء على مدى ساعات بمخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان وجورج بوش وعدة رؤساء ووزراء يابانيين وغيرهم ممن كان سيعدهم الكثيرون بين أقوى الرجال في العالم.

أما الطرف الآخر من أطراف السلطة، فقد قام أحدنا أو كلانا بزيارة قاطني (مدينة البؤس) في أمريكا الجنوبية والسجينات المحكوم عليهن بالسجن مدى الحياة – وكلتا المجموعتين تعدان من بين أكثر مَنْ لاحول لهم ولاقوة في الأرض.

علاوة على ذلك ناقشنا مسألة السلطة والقوة مع رجال المصارف وقادة النقابات العمالية والأعمال التجارية وخبراء الحاسبات الآلية والجنرالات والعلماء الفائزين بجوائز نوبل وأباطرة النفط والصحفيين وكبار المدراء في العديد من كبرى الشركات في العالم.

كذلك إلتقينا بمن يشكلون القرارات من موظفي البيت الأبيض وقصر الإليزيه في باريس ومكتب رئيس الوزراء في طوكيو، بل وفي مكاتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في موسكو.

وقد أدت مكالمة غير متوقعة لحضور اجتماع طارئ للمكتب السياسي (البوليت بيرو) إلى قطع حديث بيننا وبين أناتولي لوكيانوف (الذي كان ضمن موظفي اللجنة المركزية آنذاك وأصبح فيما بعد ثاني أكبر مسؤول في الاتحاد السوفيتي بعد غورباتشوف).

ومرة وجدت نفسي في غرفة تغمرها أشعة الشمس محاطة بالكتب في مدينة صغيرة بولاية كاليفورنيا. ولو أنني كنت معصوب العينيين (وغير مدرك لما كنت مقبلاً عليه) فربما لم يكن سيخطر ببالي قط أن تلك القناة الذكية في قميصها القصير الأكمام وبنطولنها الجينز كانت... قاتلة، أو أنها كانت مدانة بالاشتراك في جريمة جنسية بشعة، أو أننا كنا في سجن – وهو مكان توضع فيه حقائق السلطة عارية.

لقد خرجت من لقائي معها بأن السجناء أنفسهم ليسوا بلا حول ولاقوة مطلقاً، وبأن بعضهم يعرف كيف يستخدم المعلومات لأغراض السلطة والنفوذ بكل دهاء الكاردينال ريشيليو في بلاط لويس الثالث عشر- وهو أمر وثيق الصلة بفكرة هذا الكتاب. (هذه التجربة حدث بزوجتي وبي إلى القيام، في مناسبتين، بتدريس حلقة دراسية لفصل مؤلفا أساساً من القتلة.. الذين تعلمنا منهم الكثير).

لقد كان من شأن تجارب كهذه، والتي جاءت مكملة للقراءة والتحليل المستوفيين للمواد المرجعية المكتوبة التي جمعناها من كل أنحاء العالم، أن جعل إعداد كتاب (تحول السلطة) فترة لاتنسى في حياتنا.

إننا نأمل أن يجد القراء كتاب (تحول السلطة) مفيداً وممتعاً ومنيرا مثلما وجودا كذلك – حسبما بلغنا – كتابي (الموجة الثالثة) و(صدمة المستقبل). لقد اكتمل الآن ذلكم التركيب الكاسح الذي بدأ منذ ربع قرن من الزمان.
آلفين توفلر

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال