استراتيجية أمريكا في العالم: لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة وإنما انتهازية ومصالح دائمة



الاستراتيجية: هي فن توزيع الوسائط العسكرية واستخدامها من أجل إنجاز الغايات السياسية:
"ليدل هارت"
التفوق المطلق بالرضى أو بالقوة
يوضح الاستراتيجي برونوكولسون (BRUNO COLSON) ذلك في بحث باهر قائلاً: "بقيت الأهداف الاستراتيجية، بالنسبة إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ثابتة،
منذ خمسين عاماً: "القضاء على الخصوم، الأقوياء منهم أو إضعافهم ـ سواء أكانوا من "الأصدقاء" أم من "الأعداء" ـ في سبيل أن تحافظ الولايات المتحدة على وضعها المتفوق والوحيد، أطول مدة ممكنة: سواء أكان منافسوها ـ أو خصومها، من الغربيين، أم من غيرهم. وسواء، أكانوا أعضاء سابقين في حلف وارسو أم حلفاء مقربين من واشنطن في نطاق منظمة حلف شمالي الأطلسي".
ولقد ظهرت هذه العقيدة الاستراتيجية "الشاملة"(2) للولايات المتحدة، بجلاء، في المفهوم الأمريكي الجديد "للاستراتيجية القومية للأمن" عندما تم الكشف عنها وعن أهدافها أمام الجمهور الكبير، بتاريخ (8) آذار عام(1992)، بمناسبة صدورها في النيويورك تايمز، مترجمة بذلك توجه الخطط الدفاعية للبنتاغون(3). وقد جرى إعدادها بالتعاون مع مجلس الأمن القومي، المؤسسة الأرفع في السياسة الدولية في الولايات المتحدة للأمن. ونفهم من هذا التوجه، أنه يجب على الولايات المتحدة، القيام بكل شيء. من أجل ردع كل خصم محتمل، من بين البلدان المتقدمة المصنعة يحاول تحدي هيمنة الولايات المتحدة، بحيث لن يكون أمامه أمل كبير للقيام بدور أكبر، على النطاق العالمي أو الإقليمي (...) وستصبح رسالة الولايات المتحدة، أن تضمن لنفسها التفوق بشكل لا يسمح لأية قوة منافسة بالظهور، في أوربا الغربية أو في آسيا، أو في مناطق مجموعة الدول المستقلة حديثاً. وباختصار، يتعلق الأمر، بمنع أوربا واليابان "الحليفتين" ليّنتي العريكة نسبياً، وكذلك روسيا، التي أُضْعِفَت، لكنها لا تزال مرعبة، من أن ترفع رأسها في يوم من الأيام، وتوحي بالقلق "لهيمنة واشنطن". ويتحقق ذلك من واقع الآلة الاقتصادية الأمريكية الهائلة. ويوضح التوجيه الخاص بالتخطيط الدفاعي أنه "يجب على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أن تحدد لنفسها هدفاً، هو إقناع الخصوم المحتملين، بأن لا حاجة بهم إلى أن يلعبوا دوراً كبيراً. كما أن عليها أن يكون وضعها هذا أبدياً، بوصفها قوة عظيمة وحيدة، وذلك عن طريق القوة العسكرية الكافية لردع أية أمة أو مجموعة أمم تحاول تحدي تفوق الولايات المتحدة، أو البحث عن توجيه الاتهام للنظام الاقتصادي والسياسي القائم (...). ويجب علينا منع ظهور نظام أوربي، حصراً، يمكنه أن يخلق تشويشاً لمنظمة حلف شمالي الأطلسي. ويجب أن نبقى حذرين أمام الأخطار، نتيجة عدم الاستقرار في الشرق الأقصى، الذي يمكن أن ينشأ عن الدور المتزايد لحلفائنا، وخاصة اليابان". لهذا، فإنه من المؤكد ألا يكون هناك قلق أو أوهام، حول دور الأمم المتحدة، أو حول دور أي مجتمع دولي آخر، بحيث يجب إلغاء هذا الدور وتجاوزه، في كثير من الحالات، كما جرى في الحرب الأمريكية على العراق، واحتلاله، ويوضح التقرير (السري) "بجلاء": "أن ما هو هام، هو الإحساس، بأن النظام الدولي الذي تدعمه الولايات المتحدة، يجب أن تكون، في موقع تكون فيه قادرة على التحرك، بشكل مستقل، في نهاية الأمر، عندما يكون هناك عمل جماعي، ليصبح مجوقاً". ونفهم ذلك، بشكل أفضل وفي ضوء هذه الوثائق الاستراتيجية، لماذا تحاول الولايات المتحدة التحرك في العراق مثلاً، تحت غطاء تفويض من الأمم المتحدة، عندما تكون قرارات المنظمات الدولية مناسبة لمصالحها ولا سيما القومية منها حصراً. والشواهد على ذلك كثيرة، ليس في العراق وحده، بل في يوغوسلافيا السابقة أيضاً، وفي أماكن أخرى عديدة. ويحدث ذلك، عندما لا يمكن أن تستخدم (الدولانية) واجهة، أو ساتراً، بصورتها الاستراتيجية الحقيقية الدولانية أو الجيواقتصادية. فهي عند ذلك تتحرك منفردة. ولا يتوقف حكام الولايات المتحدة، عبر التأكيد، أن التفوق الشامل لبلادهم، ضروري للإنسانية أيضاً، لأن ذلك موجه من أجل "ضمان الديموقراطية والسلام في العالم"، ومن أجل حماية "اقتصاد السوق".
فقد استترت المصالح الإمبريالية، والرغبة في القوة، للحكومات الأمريكية المتعاقبة، خلف قناع من الحجج الأخلاقية، شبه الروحية، ببراعة، منذ عهد الرئيس ويلسون، بشكل ـ يجبر بقية العالم، على الخضوع للطريقة الأمريكية في الحياة تحت طائلة أن يصبح من يخالف ذلك، مُقصىً في معسكر "الأشرار" أو "البرابرة". في الواقع، لم يتوقف زعماء الولايات المتحدة مطلقاً عن الاعتقاد، بأنفسهم، أنهم "حماة الديموقراطيات" و"شعب الله المختار" الجديد، بحيث يتلقون مباركة المشروعات الدنيوية من قبل الإله. فضلاً عن ذلك، فهم مكلفون بمعاقبة "الخونة الجدد" "الرافضين الخضوع للديموقراطيات المثالية". وحسب اعتقادهم، ليس لمفهوم النظام الدولي الجديد من داع لكي يخضع لتغيير جوهري، لأنه راسخ، على الدوام. وكما يوضح فرانسيس فوكوياما، يجب استمرار "العالم الحر" بعد انتصاره على الشيوعية، هذا العالم الحر المعارض للكتلة الشرقية، في الماضي، والذي تهدده اليوم الدول "السوقية أو الوضيعة"، وكذلك، القوى والتحالفات المعادية للهيمنة الأمريكية: "الصين، روسيا، الهند... إلخ".
إن الاستراتيجية القومية، المتعلقة بالأمن، مصممة كاستراتيجية متكاملة، تمتزج فيها المصالح الاقتصادية والعسكرية والعلمية والسياسية ـ الثقافية، وأبعد من لبوسها الأخلاقي، كما أن "الاستراتيجية الشاملة"، في الولايات المتحدة، متلاحمة، على نحو لافت للنظر، ومرتبة، حول ثلاثة محاور: استراتيجية اقتصادية عامة، واستراتيجية عسكرية، واستراتيجية ثقافية عامة، حسبما يؤكد ذلك هيرفيه كوتو ـ بيجاري (HERVE COUTEAU – BEGARIE) مدير معهد "الاستراتيجية المتكاملة" في فرنسا. كذلك، فإن الهيمنة على باقي العالم، والمُسَلَّم بها لواشنطن، حتى الساعة، قائمة على الانسجام، في مجالات أربعة رئيسة للقوة الشاملة، وهي: قوة عسكرية، بالتأكيد، تسيطر بها الولايات المتحدة، على اليابسة، وعلى البحار، وبدونها لا يبدو العالم، قادراً على حل النزاعات المسلحة عالمياً. وقوة ثقافية وإعلامية "لكون القوة الضاربة الثقافية" لواشنطن، قائمة على السيطرة الكاملة تماماً على وسائل الاتصالات، التلماتيك، والتوابع الكوكبية. والقوة التكنولوجية. إذ ليس هنالك، من حاسوب في العالم، يستطيع أن يعمل دون اللوجستيك الأمريكي، ولا حتى إقامة الاتصال عن طريق الإنترنت بدونها. أخيراً، خصوصاً، قوتها الاقتصادية العجيبة، إذ تحتل المشروعات الأمريكية، المكان الأول عالمياً في العديد من القطاعات النشاطية: "سيارات، مواد غذائية، زراعية، صناعات جوية، أو مصارف، تكنولوجيات جديدة، سمعية وبصرية... إلخ" لكون الولايات المتحدة، البلد الأغنى، في العالم، "ثلث الإنتاج الخام العالمي"، وبفضل دينامية مدهشة بهذا الصدد، ونظام اقتصادي ليبرالي فعال إلى أبعد حد، بحيث أنه يتجمع في السوق المالي الأمريكي ما يزيد على ثلثي التوظيفات المالية العالمية".
وتنطلق العقيدة الأمريكية الجديدة، المرتبطة بمفهوم الثورة في المجالات العسكرية (RMA)، من استراتيجية لا تستند فقط على الحرب الاقتصادية، بشكل وثيق؛ بل على الاقتصاد في الوقت نفسه، منذ الحرب العالمية الثانية، ومن هنا تقوم مصلحتها في "الجيواقتصادية"، وفي الثقافة "الإعلامية"، وحتى الإنسانية. ويوضح زبيغنيو برززنسكي (ZBIGNEW BRZEEZINSKI)، بوجه خاص، ماهية "الاستراتيجية الشاملة" الأمريكية بقوله: "ممارسة القوة [الإمبريالية] الأمريكية، لتتحول إلى تنظيم متفوق للقوة، تحرك المصادر الاقتصادية والتكنولوجية، ذات الشأن أو الخطر دون تأخير، لغايات عسكرية، مع إغراء غامض، أو مبهم لممارسة طراز الحياة الأمريكية. كذلك في دينامية تعترف بها النخبة السياسية (...). باختصار: ما من قوة، تستطيع الادعاء بأنها قادرة على منافسة الولايات المتحدة في المجالات الأساسية الأربعة: العسكرية، الاقتصادية، التكنولوجية، الثقافية، وهي التي تشكل القوة الشاملة(4). وحتى إذا كانت الولايات المتحدة، إمبريالية، وذات نزعة هيمنية، فليس لها مثيل مطلقاً. لهذا لا تقتضي استراتيجيتها الشاملة، بالأحرى (الكلية)، في بعض الاعتبارات، تنظيماً سياسياً (كلياً) بالمعنى القطعي للكلمة، لأنه تنظيم متكامل في الواقع، ومتعدد الأشكال، وخصوصاً هو منتشر، عبر أبعاده الثقافية. وبحيث أن الهيمنة الأمريكية هي شكل جديد للإمبريالية "ديموقراطية استبدادية" أو، "دكتاتورية من نموذج ثالث". وكلما ربح هذا الطراز منطقة من العالم، خلق قرينة ملائمة غير مباشرة، ومتوافقة مع الهيمنة الأمريكية، حسب الظاهر. هذا ما يوضحه برززنسكي. وتنطوي هيمنة الولايات المتحدة، على بنية معقدة، من المؤسسات المصممة من أجل إحداث التوافق (...) مع التفوق الدولي للولايات المتحدة، وهو تفوق وحيد، سواء من حيث أبعاده، أو من حيث طبيعته (...)، ويتعلق الأمر بهيمنة بنموذج جديد(5). فالولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت الأمة التي لا غنى عنها على الكرة الأرضية". ونشاهد ذلك، عندما يوضح الاستراتيجيون الأمريكيون، على طريقتهم، الفكرة المشهورة، عن "المصير الواضح" للولايات المتحدة، والراسخ على الدوام، بعمق، في العقلية الأمريكية، منذ أن أطلقها جون سوليفان (JOHN SULIVAN) عام (1850). كما استطاع الرئيس أيزنهاور القول أيضاً: "إننا من بين الأمم التي نذرت نفسها للعدل والحرية، قد خصَّنا القدر بدور قيادة الأمم الأخرى"(6). ويكمن طابع الهيمنة للولايات المتحدة في الثقة التي بحسبها "إن طراز الحياة أمريكي". وتشكل المفاهيم الاقتصادية والسياسية الأمريكية، وحتى الأفعال القهرية، للولايات المتحدة: "غارات، ضربات جوية أخطاء. إلخ" حسنات في نظر الكثير من المولعين بالطراز الأمريكي. وكان رتشارد نيكسون يكرر: "يريد الرب أن تقود الولايات المتحدة العالم"، وأيضاً، كان روبرت كاغان (ROBERT KAGAN) يقول: إن الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة جيدة، بالنسبة إلى جزء كبير من سكان العالم"(7). كذلك "تمتزج" مصالح الولايات المتحدة "الاقتصادية والأيديولوجية والاستراتيجية... إلخ" مع تلك الإنسانية نفسها، ومع ضمان "حقوق الإنسان". لكن تنجم عن هذه الهيمنة المسيحية، الشراسة العجيبة، حتى الغطرسة، لدى المسؤولين الأمريكيين، كذلك الروح "مقدمة الخطايا"، لدى رعاة البقر، دون تشكيك(8). وهنا يجب إرجاع الاستراتيجية الأمريكية لما بعد الحرب الباردة، في هذه القرينة للهيمنة الشاملة الكونية، وتحديد العدد الوافر من "الأعداء"، من قبل الولايات المتحدة، وأحياناً يكون هؤلاء (الأعداء) حقاً ذوي نزعة عدائية، لكن لا وزن لهم، على المستوى الدولي، مثل البوسنة والصرب، والعراق، والسودان، وكوبا، وليبيا... فكانت واشنطن تبرر استخدام القوة كبديل عن الدبلوماسية. كما خلقت الدبلوماسية الأمريكية، ظاهرة (العدو المفيد)، تحت اسم (العدو المرعب). وقد استخدمت واشنطن، ذلك منذ زمن بعيد لتسويغ مشاريعها الهيمنة، أو/ و، القيام بأعمال القهر، لإقناع منافسيها بأنها قادرة على تحقيق أهدافها. وقد أعد الأمريكيون استراتيجيات غير مباشرة" تتجلى، فيها الوقاحة والصلافة والذرائعية القصوى، بشكل لا مثيل له، سوى المثالية الكاذبة التي تتذرع بها. فكانت الشيوعية العدو الحقيقي للولايات المتحدة، ولم تكن أقل فائدة بالنسبة لواشنطن، من أجل ترسيخ وتبرير تفوقها في أوربا، وفي العالم. على نحو أفضل. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، وامبراطوريته، ها هو ذا صدام حسين، الذي سيلعب دور "العدو المفيد". ومن الأمور العجيبة أن يتكرر الأمر نفسه في يوغوسلافيا السابقة. فهذا هو سلوفودان ميلوسوفيتش "جزار البلقان"، الذي كان يعامل بصورة حسنة نسبياً، حتى بداية أزمة كوسوفو. ولم تقم الولايات المتحدة بأي شيء من أجل القضاء عليه جسدياً. وكانت واشنطن قد اقترحت أهداف الحرب، خلال عملية كوسوفو، على القوى الحليفة، إذ "جسدت الشر" في الرواية البلقانية، كما هو الأمر بالنسبة لصدام حسين "المرعب". وتبقى هذه الأمور، المبررات الرئيسة لتدخل منظمة حلف شمالي الأطلسي، ضد الصرب، ومن أجل الحصول على الموافقات الدولية. وهكذا، أصبح من عادة الولايات المتحدة شخصنة العدو إلى أبعد الحدود. ثم القيام بعملية شيطنة لهذا العدو، وبالتالي إثارة الرعب من ذلك العدو المرعب، ثم تنشر الإشاعات: "إنه على وشك أن يسحقنا في كل مكان" وفي الوقت نفسه توجه الأنظار إلى من "سينقذنا" من الكارثة في الوقت المناسب تماماً، ولهذا علينا أن نحترم حكامنا المدهشين عندئذ. هكذا يقول ناعوم شومسكي، إنها الطريقة المتبناة على مدى ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته. وبالطبع تستلزم مثل تلك الأمور، أعداداً ضخمة من المهارات والمختصين، خاصة عندما تصبح "الفزاعة" المستخدمة، كالتهديد السوفياتي، أكثر صعوبة فأكثر وهكذا، تتكرر شيطنة العدو. فطوراً يكون القذافي وعشيرته، من الإرهابيين الدوليين، وطوراً الغرونادا ونورييغا، وآخر الساندينيين المتوجهين إلى تكساس وأيضاً، تجار المخدرات، من الناطقين بالإسبانية الذين يخضعون لنورييغا"(9). إن هذه الأعمال، إن دلت على شيء فإنما تدل على وقاحة استراتيجية، إنها شيطنة، وقانون الأقوى، وهي ليست إلا الذرائع الممزوجة بـ "الرغبة القومية" الأمريكية، في الهيمنة نفسها على العالم.
إذن ليست "دبلوماسية الغارات والحظر والقتل والتدمير" التي يجري تنفيذها في هذه السنوات الأخيرة، في أفغانستان وفي العراق، وفي الماضي القريب، في غرونادا، وفي بناما، وفي ليبيا وفي السودان، وفي البوسنة، وفي الصرب... ليست ظواهر جديدة، فالقادة الأمريكيون، لا عمل لهم إلا متابعة السياسة التقليدية: "العصا الغليظة" التي شنها منذ عام (1898) الرئيس ويليام ماكنلي "WILLIAM MEKINLEY" في أثناء الحرب ضد إسبانيا، من أجل السيطرة على كوبا. ثم أصبحت سياسة رسمية صدرت عن الرئيس تيودور روزفلت (THEODOR ROOSEVELT)، منذ مطلع القرن العشرين. وتستهدف "الدبلوماسية القهرية" المُغَلَّفة بالتدخل الأمريكي، إعادة الصواب للأمم العاصية، باستخدام القوة ضد كل من يقف في وجه الهيمنة الأمريكية، ولديه قابلية في أن يتسبب في إزعاج اقتصاديات الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية. وهي تستند على تبريرات أخلاقية واقتصادية في آن واحد. فالأسباب الأخلاقية قائمة على حجة التفوق الحضاري الشمالي أمريكا، "ودور الهيمنة المتسامحة" التي تُدْعى من أجل أن نلعب دور الشرعية الوحيدة في "المجموعة الدولية في العالم"، باسم "حقوق الإنسان"، وباسم "الديموقراطية الليبرالية". وسيصبح مشروعاً فرض القيم الأمريكية على العالم أجمع. فقد وضع روزفلت الأسباب الاقتصادية، لكي تبقى الأكثر شأناً ثم أضحت مُسْتترةً "خلف الأسباب الإنسانية". فقد كتب المؤرخ جاك سورو (JACQUES SEUROT): "أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى مستهلكين خارجيين من أجل امتصاص ما طفح من إنتاجها الضخم منذ نهاية القرن التاسع عشر، ما أن تم احتلال الغرب الأقصى [والتخلص من مسألة الهنود الحمر، عن طريق الإبادة الجماعية، تلك الإبادة التي جرى التطبيل لها بصورة مجوقة]"(10). فقد جرى التقدير، في الواقع، أن المعامل الأمريكية، تنتج آنذاك أكثر من حاجة الشعب الأمريكي الذي لا يستطيع استهلاك ذلك الإنتاج. وَبَرَّرَ الاقتصادي الإنجليزي المشهور، السير ويليام بيفريددج SIR WILLIAM BEVERIDGE أيضاً، روح الهيمنة الأمريكية بالتالي: "تنتج التربة الأمريكية، أكثر مما يمكن استهلاكه، وإن القدر خطط لنا سياستنا. ويجب أن تكون التجارة الدولية تجارتنا، وستكون كذلك. وإننا سنقيم مكاتب صرافة تجارية على سطح الكرة الأرضية كمراكز لتوزيع الإنتاج الأمريكي، وسنغطي المحيطات ببواخرنا التجارية (...) وستخرج مكاتب الصرافة التجارية التابعة لنا من المستعمرات الكبرى لنشر علمنا والمتاجرة معنا. وستتبع مؤسساتنا علمنا على أجنحة التجارة والقانون الأمريكي، والنظام الأمريكي، والحضارة الأمريكية. وسيصبح العلم الأمريكي مغروساً على كل الشواطئ حتى هنا، وفي مأمن من العنف والظلامية. إن هذه الملحقات من الرب ـ تجعلها رائعة وساطعة في المستقبل"(11). وَبَيَّن زبيغنيو برززنسكي، وبلغة أكثر عصرية، لكنها أكثر وضوحاً وإمبريالية، "أنه إذا كان يتوجب أن يختفي التفوق الأمريكي، فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية السلام في العالم. والنظام الدولي قطعاً". ويضيف: "في النظام الدولي الحالي، إن البديل الوحيد للقوة الأمريكية، هو الفوضى الدولية (...) من واقع خطورة النتائج التي يمكن أن تجرها في حال انسحاب القوات الأمريكية، من كوريا الجنوبية، ومن الخليج العربي/ الفارسي، أم من العراق، ومن البوسنة، دون الحديث، عن منظمة حلف شمالي الأطلسي. وهذه أمور لا تعقل عملياً. ويتجلى هذا، بأنه لا توجد أية قوة أخرى، في الوقت الحاضر، ذات أهمية موازية للقوة الأمريكية أو حتى للعب دور مماثل"(12).
وتكمن قوة (الاستراتيجية الشاملة) للولايات المتحدة، في هذا الميل لدى الأمريكيين، الذي ينطوي على الرغبة، في وضع قناع على نواياهم العجيبة، ورغبتهم في القوة، خلف حجج أخلاقية، أو مسيحية بالأحرى. وإننا نجد هنا المسألة الجيوسياسية المركزية للتصورات، مثل: (قوات قابلة للتعبئة) وذات "مشروعية" وذلك بما يناسب التاريخ والعمل السياسي. وعلى الرغم من أن برززنسكي، لم يكن من أصل أنجلوساكسوني، مثله مثل مادلين أولبرايت، فإن لديه حماسة دينية تدفعه إلى اعتبار المصالح الاقتصادية الأمريكية ذات مهمة "حضارية، سلمية، ديموقراطية". وتوضح أولبرايت ذلك، بتاريخ (20) أيار عام (1999)، خلال كلمة موجزة، حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أمام مجلس الشيوخ بقولها: "إن الهدف الخاص بالولايات المتحدة، هو الحرية، فنحن الأمريكيين نؤمن بالقانون ونتعلق بالسلام، إننا نتوخى الرفاه، ونعمل مع الآخرين من أجل أن نقرب الشعوب إلى مبادئ أساسية من الديموقراطية والقانون، والأسواق المفتوحة. إننا نقوم بذلك، لأنه هو العدل. لكن أيضاً، إن من الأمور الأساسية، إقامة حماية أفضل لمصالح شعبنا وأمتنا، أحد الأهداف الأولى لسياستنا الخارجية، وتشجيع اقتصاد عالمي سليم فيه يلقى النبوغ والإنتاج الأمريكيان ما يستحقانه من الاحترام والتقدير. اضطلعوا معنا، دون أن تشكوا منا، لكن استقبلونا الاستقبال الحسن، عند القيام بدور الزعامة التي أقامها أسلافنا"
موسى الزعبي


ليست هناك تعليقات