مسألة إدماج التعليم في المجتمع والبعد الاجتماعي والثقافي في العملية التعليمية



عقدت مؤسسة الفكر العربي ببيروت بالاشتراك مع المنتدى العربي الرابع للتربية والتعليم، ندوة في عمان بتاريخ 24/25 أبريل الماضي في موضوع "البعد الاجتماعي والثقافي في العملية التعليمية" ساهمت فيها بورقة طلب مني أن يكون عنوانها كما يلي: "قيم العمل في التراث والفكر والممارسة".

وبمناسبة انعقاد المؤتمر الحادي عشر للوزراء المسئولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي في أوائل نوفمبر القادم بدبي، الذي سينظم ندوة حول "عولمة التعليم العالي: الهوية العربية وحتمية التطوير".

وقد طلب مني المساهمة فيها بورقة تحت عنوان: "العولمة ومستقبل التعليم العالي في الوطن العربي بين الحفاظ على الهوية وحتمية المواكبة" -رأيت من المناسب إشراك قراء هذه الصفحة في التفكير معنا في "هموم التعليم" بالعالم العربي، وما أكثرها، بتقديم ملخص عن مداخلتي في ندوة عمان في حلقتين أتناول في الحلقة الأولى -في هذا المقال- مسألة إدماج التعليم في المجتمع.

ما من شك في أن العملية التعليمية -منهجا ومضمونا- كانت، وما تزال، ذات علاقة عضوية بكل من المجتمع ونوع الثقافة السائدة فيه.
فالعملية التعليمية كما تتم في المجتمعات البشرية ظاهرة إنسانية.

ومع أن قسما منها يتم من خلال التقليد والاقتداء كما هو الشأن في الحيوان عموما، فإن مما يميز المجتمع البشري هو أن عملية التعليم والتعلم تتم فيه أيضا، وبصورة أساسية، بطريقة إرادية.

وعنصر الإرادة هذا هو ما يمنح لفظ "التعليم" معناه، بوصفه مشتقا من فعل متعد يصدر عن مُعلِّم ويقع على مُتَعَلم (علَّم يُعلِّم، على خلاف تَعلَّم يتعلم).

ومع أن التعليم كان وما يزال –مثله في هذا مثل التربية بوجه عام- ذا طابع محافظ، يعمل على الحفاظ للمجتمع على هويته وعاداته واستشرافاته الخ، فيعيد إنتاجه عبر العصور، فإن من أهم ما حدث من تطورات في تاريخ البشرية هو الاتجاه بالتعليم نحو التغيير والتجديد.

وهذا كان دور الأنبياء والرسل والفلاسفة والعلماء والمصلحين، قبل أن يصبح في العصر الحديث جزءا من سياسة الحكومات وتخطيطاتها.

 إن موضوع "قيم العمل في التراث والفكر والممارسة"،  الذي كلفت بالكلام فيه واسع عريض، وجل ما يمكن أن يقال فيه معروف وكثير منه مكرر، ولذلك سأقتصر هنا على جملة أفكار أبدأها بالتذكير بما نعرف جميعا وهو أن ظهور الإسلام قد ارتبط مباشرة بالدعوة إلى التعليم وإبراز أهميته كما ورد في أول سورة نزلت "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق 1-5).

ومن اللافت للنظر أن الدعوة إلى التعليم تتردد في كثير من الآيات والأحاديث منذ ابتداء الوحي إلى حين وفاة الرسول عليه السلام.

ومعروف أنه عليه السلام قد اتخذ قرارا تاريخيا، في أمر فداء قريش لأسراها عقب غزوة بدر، مفاده أن: "من لم يكن معه مال وهو يحسن القراءة والكتابة يُعطى له عشرة من غلمان المدينة يُعلِّمهم، وكان ذلك فداءَه".
وهذا مظهر فريد من مظاهر "البعد الاجتماعي والثقافي في العملية التعليمية".

بعد التذكير بهذه الواقعة التاريخية الفريدة أعود فأقول إنه مع أن الإطار العام الذي يندرج تحته موضوعنا (قيم العمل في التراث والفكر والممارسة) يسمح بالتوسع في الحديث عن "البعد الاجتماعي والثقافي في العملية التعليمية"، ليشمل ماضينا فضلا عن حاضرنا فإن الحجم المحدد لهذه المداخلة يقتضي في نظرنا التركيز على الحاضر والاقتصار على ملاحظتين تتعلقان مباشرة بجوهر العملية التعليمية كما تطرح نفسها علينا في الوقت الحاضر.

الملاحظة الأولى تخص ما درجنا على أن نطلق عليه في العقود الأخيرة عبارة: "إدماج التعليم في المجتمع" وبالتخصيص في "سوق العمل".

لقد ترددت هذه المقولة، وتتردد، بوصفها سببا ومطلبا في آن واحد: سببا من حيث إن عدم مراعاة حاجة سوق العمل في توجيه تعليمنا وإعداد المتعلمين هو السبب في ظاهرة بطالة الخريجين، وهي الظاهرة التي تعري فشل نظامنا التعليمي ككل، ليس فقط في مجال المساهمة الفعالة في تنمية المجتمع بل أيضا في مجال تلبية الحاجات الضرورية للحياة بالنسبة للشخص المتعلم المتخرج.

أنا لا أجادل في هذه الدعوى! فهي تعبر عن واقع مشاهد وملموس.
لكن الذي أريد لفت النظر إليه هو الوجه الآخر من العملة: إن المطالبة بدمج التعليم في المجتمع تستدعي مطلبا موازيا وهو: "دمج المجتمع في التعليم".

 ذلك أننا إذا تدبرنا ما نصف به تعليمنا من تخلف وقصور فإننا سنجده إنما يعكس ما بالمجتمع من تخلف.
ومن هنا يمكن القول إن المطلوب من التعليم في مثل هذه الحال ليس أن يندمج في المجتمع، بل أن يعمل على تغيير المجتمع.

إن مسألة الاندماج مسألة نسبية. إن الأعداد الكبيرة التي تتخرج من التعليم الثانوي دون أن تجد مقعدا في المعاهد العليا تبقى عرضة للبطالة المحققة، وبالتالي للعودة إلى الأمية.

ذلك لأن المجتمع لا يتوافر فيه من المنافذ ما يكفي لاستيعاب هذه الجموع.
علاقة التعليم بالمجتمع علاقة ثنائية الاتجاه: فمن جهة يجب أن يكون المجتمع قادرا على استقبال نتائج التعليم، ومن جهة أخرى يجب أن يكون التعليم قادرا على تلبية حاجات المجتمع.

ومن نافلة القول التأكيد على أن التخطيط للتعليم، أعني رسم سياسة أو إستراتيجية له، يجب أن يتم في إطار التخطيط للمجتمع ككل.
وفي بلد متخلف لا أفهم كيف يمكن تحقيق تنمية بدون نوع ما من التخطيط.

فالتنمية الهادفة إلى الخروج من التخلف لا تتحقق بمجرد التبعية لسوق العمل بل لابد من إخضاع سوق العمل نفسها لمتطلبات التخطيط للتنمية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إننا عندما نقول الآن: "يجب إدماج التعليم في المجتمع"! ننسى حقيقة أن التعليم عندنا كان دائما -كما هو الحال في جميع الأقطار والأزمان- مندمجا في المجتمع.

كان المجتمع العربي في القرون الوسطى لا يحتاج من المتعلمين إلا إلى المؤذن وإلى من يقيم الصلاة ولمن يكتب عقد الزواج وما أشبه، أما العلماء والفلاسفة والفقهاء فقد كانوا قلة، ونادرا ما كان الواحد منهم يعيش خارج حاشية السلطان!.

وهذا راجع ليس فقط إلى أن الانتظام في حاشية السلطان كان مصدرا للشهرة والسلطة، وطريقا لتحصيل المعرفة من خزائن الكتب التي تتجمع لديه إما بشرائها أو بتلقيها كهدايا الخ، بل كان الانتظام في حاشية السلطة "نحلة من المعاش" أيضا، كما يقول ابن خلدون، منها يحصل المتفرغ للعلم على معاشه ومعاش عائلته!...

والمجتمع العربي اليوم ما زال يعيش هذا النوع من "اندماج التعليم في المجتمع".
هناك في تعليمنا اليوم قطاع تقليدي مندمج في المجتمع الموروث، ومهمته المحافظ عليه. نعم لم يعد هذا القطاع التقليدي من التعليم يستجيب وحده لمتطلبات المجتمع ككل.

ففي جميع الأقطار العربية اليوم قطاع "حديث" تابع للرأسمالية العالمية: بعض الأقطار العربية ورثته من الاستعمار الذي غَرس فيها منه ما كان في حاجة إليه، وبعضها أنشأته حكومات الاستقلال، وهي التي تسيره ظاهريا، ولكنه في جوهره يستنسخ النموذج "الأوربي" الذي فرض نفسه عالميا، فهو رهين التبعية والذيلية له.

والتعليم الخاص بهذا القطاع مندمج فيه أيضا.
وهذه الازدواجية في المجتمع تنعكس على العملية التعليمية فتجعلها توفر فائضا وفي نفس الوقت تعجز عن تلبية حاجات التنمية في المجتمع، بما فيها حاجات التعليم نفسه.

وهكذا تتراكم أعداد الخريجين فيعانون من البطالة، وفي نفس الوقت تزداد الحاجة إلى المتخرجين المؤهلين للاستجابة لمتطلبات التنمية في كافة الميادين.
محمد عابد الجابري


المواضيع الأكثر قراءة