الأهلية التجارية في القانون المغربي: تأصيل وتفصيل
تُعدّ الأهلية التجارية ركيزة أساسية لمزاولة النشاط التجاري، وتُعرف بأنها صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات المتعلقة بممارسة التجارة. في المملكة المغربية، تُنظم الأهلية التجارية بموجب مدونة التجارة (القانون رقم 15.95)، مع مراعاة القواعد العامة للأحوال الشخصية، والتي تُحددها حالياً مدونة الأسرة (القانون رقم 70.03). هذا التداخل بين القوانين يهدف إلى تحقيق التوازن بين حماية الأفراد وضمان سير المعاملات التجارية.
الأهلية التجارية والقواعد العامة للأحوال الشخصية (المادة 12):
تُشير المادة 12 من مدونة التجارة إلى أن الأهلية التجارية تخضع للقواعد العامة للأحوال الشخصية. هذا يعني أن السن القانوني للرشد، الذي يُعدّ شرطاً أساسياً لاكتساب الأهلية الكاملة، يُحدده قانون الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة). وبموجب مدونة الأسرة المغربية، تُحدد سن الرشد القانوني بـثمانية عشرة سنة شمسية كاملة. وبالتالي، فإن الشخص الذي يبلغ هذا السن يُعتبر مبدئياً كامل الأهلية لمزاولة التجارة.
حالات خاصة للأهلية التجارية: القاصر والإذن بالاتجار (المادة 13):
على الرغم من قاعدة سن الرشد، تُتيح مدونة التجارة بعض الاستثناءات التي تُمكن القاصر من مزاولة التجارة في ظروف محددة، وذلك لحماية مصالحه وضمان رقابة قضائية:
- الإذن بالاتجار الممنوح للقاصر: يُمكن للقاصر، الذي لم يبلغ سن الرشد القانوني (18 سنة كاملة)، أن يُمنح إذناً خاصاً بمزاولة التجارة. هذا الإذن يجب أن يصدر عن الجهة القضائية المختصة وفقاً لمقتضيات قانون الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة). الهدف من هذا الإجراء هو السماح للقاصر، الذي قد يمتلك قدرات تجارية مبكرة أو ورث تجارة، بممارسة النشاط تحت إشراف ورقابة قانونية.
- الترشيد: يُمكن أن يُمنح القاصر، الذي بلغ سناً معينة وقُدرة على التصرف، وضعية "الرشيد" من الناحية القانونية، مما يُمكنه من التصرف في أمواله وإبرام العقود كما لو كان راشداً. هذا الترشيد يُمنح أيضاً بموجب قانون الأحوال الشخصية.
- التقييد في السجل التجاري: تؤكد المادة 13 على ضرورة تقييد هذا الإذن بالاتجار أو قرار الترشيد في السجل التجاري. هذا التقييد يُعدّ إجراءً إلزامياً يهدف إلى تحقيق مبدأ الشفافية وإعلام الغير، حتى يكون المتعاملون مع هذا القاصر على علم بوضعيته القانونية وبسريان الإذن الممنوح له بمزاولة التجارة.
استثمار أموال القاصر: دور الوصي والمقدم والرقابة القضائية (المادة 14):
تُولي مدونة التجارة اهتماماً خاصاً لحماية أموال القاصر، خاصة إذا كانت تُستثمر في مجال التجارة الذي ينطوي على مخاطر. لذلك، تُفرض قيود صارمة على الأوصياء والمقدمين:
- إذن خاص من القاضي: لا يجوز للوصي (الذي يُعينه الأب أو الأم قبل وفاتهما أو يُعينه القاضي) أو المقدم (الذي تُعينه المحكمة على القاصر الذي ليس له وصي أو تُعينه على عديم الأهلية) أن يستثمر أموال القاصر في التجارة إلا بعد الحصول على إذن خاص من القاضي. هذا الإذن ليس مجرد إذن عام، بل هو إذن يُمنح تحديداً للاستثمار التجاري، ويخضع لمقتضيات قانون الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة) التي تُشدد على حماية مصالح القاصر.
- تقييد الإذن في السجل التجاري: يجب أن يُقيد هذا الإذن الخاص الصادر عن القاضي في السجل التجاري الخاص بالوصي أو المقدم. هذا الإجراء يضمن أن أي طرف يتعامل مع الوصي أو المقدم بصفته تاجراً يُدرك أن هناك أموالاً لقاصر تُستثمر تحت إشراف قضائي.
- عقوبات سوء التسيير: تُشدد المادة 14 على مبدأ المساءلة. ففي حالة فتح مسطرة التسوية أو التصفية القضائية ضد الوصي أو المقدم (أي إعلان إفلاسه أو عجزه عن تسديد ديونه) بسبب سوء تسييره لأموال القاصر، يُعاقب المعني منهما بالعقوبات المنصوص عليها في القسم الخامس من الكتاب الخامس من مدونة التجارة. هذه العقوبات تهدف إلى ردع سوء استغلال الوصاية أو التقديم، وتُؤكد على أن حماية أموال القاصر أولوية قصوى.
الأهلية التجارية للأجانب: مبدأ "سن الرشد المغربي" (المادة 15 و 16):
تُقدم مدونة التجارة قواعد خاصة لتحديد الأهلية التجارية للأجانب، وهي قواعد تُخالف في بعض الأحيان مبدأ "قانون الجنسية" وتُركز على "سن الرشد المغربي" لضمان التوحيد القانوني للمعاملات داخل التراب المغربي:
- المادة 15 (المعدلة): تنص على أن "يعتبر الأجنبي كامل الأهلية لمزاولة التجارة في المغرب ببلوغه ثمانية عشر سنة كاملة". هذه المادة حاسمة لأنها تُقر قاعدة مهمة: حتى لو كان قانون جنسية الأجنبي يفرض سناً أعلى للرشد (مثلاً 21 سنة)، فإنه يُعتبر كامل الأهلية لمزاولة التجارة في المغرب بمجرد بلوغه 18 سنة. هذا التعديل يهدف إلى تبسيط الإجراءات وتشجيع الاستثمار الأجنبي، ويُشير إلى أن القانون المغربي يُطبق مبدأ "سن الرشد في مكان ممارسة النشاط التجاري".
- المادة 16 (الأجنبي غير البالغ سن الرشد المغربي): في المقابل، إذا كان الأجنبي لم يبلغ سن الرشد المنصوص عليه في القانون المغربي (18 سنة)، فإنه لا يجوز له أن يتجر إلا بإذن من رئيس المحكمة التي ينوي ممارسة التجارة بدائرتها. هذا الشرط ينطبق عليه حتى لو كان قانون جنسيته يعتبره راشداً. هذا الإجراء يحمي الأجنبي القاصر ويُخضعه للرقابة القضائية المغربية.
- تقييد الإذن وسرعة البت: يجب أن يُقيد هذا الإذن أيضاً في السجل التجاري، ويُشدد القانون على أن "يفصل في طلب الإذن فوراً"، مما يعكس رغبة المشرع في تيسير الإجراءات وعدم تعطيل النشاط التجاري.
أهلية المرأة المتزوجة لمزاولة التجارة (المادة 17):
تُعدّ المادة 17 من مدونة التجارة نصاً بالغ الأهمية يعكس التطور التشريعي في المغرب نحو تعزيز حقوق المرأة واستقلاليتها المالية والمهنية:
- ممارسة التجارة دون إذن الزوج: تُقرّ هذه المادة بوضوح أن "يحق للمرأة المتزوجة أن تمارس التجارة دون أن يتوقف ذلك على إذن من زوجها". هذا النص يُلغي أي اشتراط لإذن الزوج، مما يُعزز من أهلية المرأة الكاملة لمزاولة الأنشطة التجارية باستقلالية تامة.
- بطلان الاتفاقات المخالفة: تُضيف المادة تأكيداً قاطعاً بالقول إن "كل اتفاق مخالف يعتبر لاغياً". هذا يعني أن أي شرط أو اتفاق بين الزوجين يُقيد من حق الزوجة في ممارسة التجارة دون إذن زوجها يُعدّ باطلاً ولاغياً من الناحية القانونية.
تُشكل هذه المادة جزءاً من التوجه العام في التشريع المغربي نحو تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً، وتُزيل أي عوائق قانونية قد تُعيق مشاركتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتُرسخ مبدأ استقلال الذمة المالية للزوجة.