فن المعاني.. علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يكون بليغا فصيحا في أفراده وتركيبه



فن المعاني:

المعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يكون بليغاً فصيحاً في أفراده وتركيبه([1]) فالفصاحة أن يكون الكلام خالصاً أي سالماً مما يعد عيباً في اللغة بأن يسلم من عيوب تعرض للكلمات التي تركب منها الكلام أو تعرض لمجموع الكلام([2]).

العيوب العارضة للكلمات ولمجموع الكلام:

فالعيوب العارضة للكلمات ثلاثة الغرابة، وتنافر الحروف، ومخالفة قياس التصريف.
والعيوب العارضة لمجموع الكلام ثلاثة التعقيد ([3]) وتنافر الكلمات، ومخالفة قواعد النحو ويسمى ضعف التأليف.

ما هي الغرابة؟

أما الغرابة فهي قلة استعمال الكلمة في متعارف أهل اللغة أو تناسيها في متعارف الأدباء مثل الساهور اسم الهلال ومثل تكأكأ بمعنى اجتمع وافر نقع بمعنى تفرق في قول أبي علقمة أحد الموسوسين وقد أصابه صرع فأحاطت به الناس (مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأون على ذي جنة افر نقعوا)([4]).

ما هو تنافر الحروف؟

وأما تنافر الحروف فهو ثقل قوي في النطق بالكلمة لاجتماع حروف فيها يحصل من اجتماعها ثقل نحو الخعخع نبت ترعاه الإبل وأقل منه في الثقل مستشزرات بمعنى مرتفعات وأما الثقل الذي لا يضجر اللسان فلا يضر نحو وسبحه وقول زهير: (ومن هاب أسباب المنايا ينلنه).

ما هي مخالفة قياس التصريف؟

وأما مخالفة قياس التصريف فهو النطق بالكلمة على خلاف قواعد الصرف.
كما يقول في الفعل الماضي من البيع بَيَعَ لجهله بأن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبله يقلب ألفا.

ما هو التعقيد؟

وأما التعقيد فهو عدم ظهور دلالة الكلام على المراد لاختلال في نظمه ولو كان ذلك الاختلال حاصلا من مجموع أمور جائزة في النحو كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال الخليفة هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملكا + أبو أمه حي أبوه يقاربه

أراد وما مثله في الناس حي يقاربه أي في المجد إلا ملكاً أبو أم الملك أبو هذا الممدوح فشتت أوصال الكلام تشتيتاً تضل فيه الأفهام([5]) وأما التنافر فهو ثقل الكلمات عند اجتماعها حين تجتمع حروف يعسر النطق بها نحو قول الراجز الذي لا يعرف.
وقبر حرب بمكان قفر -- وليس قرب قبر حرب قبر

فكل كلمة منه لا تنافر فيها وإنما حصل التنافر من اجتماعها حتى قيل إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد النصف الآخر ثلاث مرات متواليات فلا يتلعثم لسانه.

ما هي مخالفة قياس النحو؟

وأما مخالفة قياس النحو فهو عيب كبير لأنه يصير الكلام مخالفاً لاستعمالات العرب الفصحاء فهو يعرض للمولدين والمراد منه مخالفة ما أجمع النحاة على منعه أو ما كان القول بجوازه ضعيفاً ووروده في كلام الغرب شاذاً نحو تعريف غير في كقول كثير من طلبة العلم الغير كذا ونحو تقديم التأكيد على المؤكد في قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعــ + ـجب إلا من طامع في ازدياد

وكذلك كل ما جوزه في ضرورة الشعر إذا وقع شيء منه في النثر فضعف التأليف عيب لا يوجب إنبهام المعنى بخلاف التعقيد.

ما هي البلاغة؟

والبلاغة اشتمال الكلام على أحواله خصوصية([6]) تستفاد بها معان زائدة على أصل المعنى([7]) بشرط فصاحته كاشتمال قوله تعالى: (فقالوا إنا إليكم مرسلون) على حالة خصوصية وهي التأكيد بأن لإفادة معنى زائد وهو توكيد الخبر لأجل إبطال تردد المخاطبين فيه وذلك أمر زائد على أصل المعنى وهو الإعلام بكونهم رسلاً الذي يكفي لإفادته أن يقال أرسلنا إليكم أو نحن إليكم مرسلون.

وتسمى هذه الأحوال الخصوصية بالنكت وبالخصوصيات وهي تكثر وتقل في الكلام بحسب وجود الدواعي والمقتضيات من كثرة وقلة كالأدوية فإنها تشتمل على عقاقير كثيرة تارة وقليلة أخرى بحسب ما يحتاجه المزاج لإصلاحه، انظر مثلاُ قوله تعالى: (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) فنجد في قوله (ينزل) خصوصيتين: إحداهما التعبير بصيغة (فعَّل) الدالة على التكرير، والثانية التعبير بصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار لأن المقام للتبشير بزيادة الإخراج من الظلمات إلى النور يوماً فيوماً وفي كل حال.

وانظر قوله في الآية الأخرى (نزل عليك الكتاب بالحق) فلا تجد في (نزل) إلا خصوصية واحدة وهي التعبير بصيغة (فعل) لأن المقام للامتنان، والامتنان يكون بما وقع لا بما سيقع والبليغ في إتيانه بهذه الأحوال في كلامه يراعي أحوال المخاطبين ومقامات الكلام([8]) فلا يأتي بنكتة وخصوصية إلا إذا رأى أن قد اقتضاها حال المخاطب واستدعاها مقام الكلام وبمقدار تفاوت المتكلمين في تنزيلها على مواقعها يتفاوت الكلام في مراتب البلاغة إلى أن يصل إلى حد الإعجاز الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله وهو الذي اختص به نوابغ بلغاء العرب مثل امرئ القيس والنابغة والأعشى وسحبان في أكثر كلامهم.

وحيث كانت البلاغة يتصف بها الكلام باعتبار إفادته عند التركيب والإسناد فلا جرم إن كان ملاك الأمر فيها راجعاً إلى ما يتقوم به الإسناد وكذلك كيفيات الإسناد والمسند إليه والمسند ثم تتفرع البلاغة في متعلقاتها من المعمولات أحوال الجمل وسيجيء كل نوع من ذلك في بابه.

هوامش:

([1]) يعني تعرف أحوال الألفاظ المفردة لتكون فصيحة وتعرف أحوال الألفاظ المركبة وهي الجمل والكلام ليكون كلاماً فصيحاً وبليغاً.

([2]) اعلم أن الفصاحة من أخص أوصاف كلام العرب وعدها في علم المعاني من حيث إنها شرط في البلاغة إذ لا يعتد بالكلام البليغ إلا إذا كان فصيحا فلما توقف وصف البلاغة على تعقل معنى الفصاحة ذكروها هنا لئلا يحيلوا المتعلم على علم آخر وقد كان الشأن أن تعد الفصاحة من مسائل علم الإنشاء والمتقدمون عدوها في المحسنات البديعة نظرا لكونها حسنا لفظيا لكن الحق أن كونها أقوى اعتبارا من البلاغة مانع من عدها في المحسنات التي هي توابع فالوجه عندها من مسائل الإنشاء وأن ذكرها هنا مقدمة للعلم وإنما اشترطت الفصاحة في تحقيق البلاغة لأن الكلام إذا لم يكن فصيحا لم تقبل عليه إفهام السامعين فيفوتها كثير مما أودعه المتكلم في كلامه من الدقائق.

([3]) ويقال له التعقيد اللفظي وهنالك تعقيد يوصف بالمعنوي يرجع إلى الكناية التي تخفي لوازمها خفاء شريدا كما قال بعض المهوسين في مدح بعض علماء تونس: (يا قريب العهد من شرب اللبن) وقال أردت أنه نال العلم على صغر سنة ولا حاجة إلى التعرض له هنا لقلة جدواه ولأنه لا علاقة له باللفظ الذي هو معروض الفصاحة ولأن الفصاحة ليست من فن البيان ولا من فن المعاني بل هي من مقدمات الفن ولاشيء من المقدمات بمسائل.

([4]) اعلم أن الحكم على الكلمة بالغرابة عسر جدا بالنسبة للمولدين لأن استعمال العرب بعد عنا وعليه فنحن نعرف غرابة الكلمة أما بكونها غير جارية على الأوزان المتعارفة والحروف المألوفة نحو هَلَّوف أي يوم ذوغيم. وأما بكون الكلمة غير متكررة الاستعمال في المحفوظ من فصيح نظم العرب ونثرهم نحو خنفقيق أي الداهية المهلكة فقد قال المهلهل:
قل لبني حصن يردونه -- أو يصبروا للصَّيلم الخنفقيق

وأما بوجود مرادف كثر استعماله ونسي الآخر نحو حيدر بمعنى قصير فإنه ورد في كلامهم بقلة.

([5]) إذ يتوهم السامع أنه يقول لا مثل له إلا ملكاً جده للأم حي وأبوه يقارب جده للأم في المجد أو في العمر وهذا معنى مضحك.

([6]) نسبة للخصوص وهم خاصة الناس في هذا الباب أعني بلغاء الكلام لأن هاته الأحوال لا توجد إلا في كلام البلغاء دون كلام السوقة ولئن وجدت في كلام السوقة فإنها غير مقصود بها مرماها.

([7]) أصل المعنى هو المقدار الذي يتعلق غرض المتكلم بإفادته المخاطب سواء كان قليلاً نحو نزل المطر أو بزيادة معنى نحو نزل الجود ورسف فلان فإنه يفيد أزيد من نزل المطر ومشى فلان لكنه أفاده بمدلول الكلمات وقد تكون الزيادة في المعنى نحو جاء فلان الكاتب وكل هذا من قبيل أصل المعنى لأن جميعه تعبير لزمت إفادته فالحاصل أن أصل المعنى يطول ويقصر بحسب الغرض وهو فوائد أصلية، ثم إذا كيف المتكلم بكيفيات فتلك الكيفيات زائدة على أصل المعنى.

([8]) أحوال المخاطبين مثل حال المنكر والمتردد والمعتقد العكس في القصر وحال الذكي والغبي في إيراد الكناية وأما المقامات فهي أغراض الكلام والمواقع التي يتلكم فيها البليغ مثل مقام الحرب ومقام السلم ومقام الحب ومقام الموعظة ومقام الاستدلال العلمي ومقام الخطابة الاقناعي.