قضية انتحال الشعر العربي في نظر المستشرقين.. أثر الرواية الشفوية في السقط والتغيير والتحريف



قضية انتحال الشعر العربي في نظر المستشرقين:

تعرض المستشرقون لقضية الانتحال، ويبدو أنَّ المستشرق الألماني تيودور نولدكه أول من لفت الأنظار إلى هذه القضية سنة 1864م، فقد تحدث عن تضارب الروايات واختلافها في نصوصها، وعن رواة الشعر الجاهلي، وعن تداخل الشعر بعضه في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى.

القصائد المروية غير موثوق بصحتها:

وبعده بثماني سنوات نشر المستشرق وليم إلوارد دواوين الشعراء الستة الجاهليين: امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وعنترة بن شداد، وتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ القصائد المروية غير موثوق بصحتها سواء من ناحية المؤلف، أو ظروف النظم، أوترتيب الأبيات، ويتقرر بالنتيجة أنَّ عدداً قليلاً من القصائد صحيح، ولكن الشك يخيم على ترتيب الأبيات وشكل كل واحد منها، أما بقية الآثار فإنَّ الشك فيها محتوم لا مناص منه.

أثر الرواية الشفوية في السقط والتغيير والتحريف:

أما كارل بروكلمان فإنه يؤكد ابتداء أنَّ العرب قد عرفوا الكتابة، سواء في شمال الجزيرة العربية أو في جنوبها، ولكنه يؤكد أنَّ أهل اليمن يعرفون الكتابة ويستعملونها في نقش الآثار الدينية والقانونية على الحجارة منذ ألف عام على الأقل قبل الميلاد، ولا ندري هل استعملـوها أيضاً في أغـراض الحياة الخاصة‏ أو في تسجيل الفن الكلامي بوجه خاص، على مواد أكثر تعرضا للتلاشي والضياع من الحجارة.

وتعرض بروكلمان إلى أثر الرواية الشفوية في السقط والتغيير والتحريف، على الرغم من أنَّ ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث، وإذا كان ما سلف يحصل سهواً أو نسياناً، فإنَّ بعض الـرواة غيـَّر بعض أشعار الجاهلية عمداً، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أنْ يكون وضع أشعار قديمة منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.

إنَّ هذه الأفكار تكاد تقترب من أفكار ابن سلام الجمحي ليصل بروكلمان إلى نتيجة تكاد تماثل النتائج التي توصل إليها ابن سلام، يقول بروكلمان إنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أنَّ القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دوراً ثانوياً.

كل شيء في الأدب الجاهلي غير موثوق به:

أما وليام مارسيه فإنه يذهب إلى القول في إنَّ كل شيء في الأدب الجاهلي غير موثوق به، فالتاريخ نـزوي، ونسبة الآثار إلى أصحابها مترجرجة واعتباطية إلى حد بعيد، كما أنَّ صحة أبيات عديدة، أو قصائد برمتها لا يعول عليها.

التمييز بين الصحيح والموضوع من الشعر:

ويؤثر بلاشير تكرار وتطوير بعض مقولات المفضل الضبي ويجد نفسه عاجزاً عن التفريق بين ما قاله حماد الراوية وخلف الأحمر، ويخلص من ذلك إلى النتيجة التي توصل إليها المفضل الضبي، في عجزه عن التمييز بين الصحيح والموضوع من الشعر، إنَّ حقيقة الشعر الجاهلي تكمن في أنَّ بلاشير يرى أنَّ ثمة عدداً كبيراً من النصوص الشعرية الصحيحة قد أفسدتها الرواية الشفوية والتدوين، فامتزجت بآثار شعرية منحولة تحاكى في طبيعتها وخصائصها النصوص الشعرية الجاهلية، وليس هناك مجال لتمييزها بخلاف قطع منحولة صنعت بسذاجة وقلة دراية، بحيث يمكن لتجـربة قليلة تكشف عن حقيقتها.

ويتوقف بلاشير عند المقلدات، وهي القصائد المطولة التي تحاكي الشعر الجاهلي ومن الغريب أنه يعدها أكثر أصالة من الأصيـل  لأنَّ المشكلة تكمـن في الحقيقة في كيفية التمييز بين الأصيل والمنحول، ولأنه من أجل تحقيق هذه الغاية وجب أنْ يكون في حوزتنا آثار غير مشكوك في صحتها يمكن أن تتخذ معيارا إذا صح التعبير.

اختلاط الصحيح بالمنحول من الشعر:

إنَّ المبالغة في اختلاط الصحيح بالمنحول دفعت بلاشير إلى حكم مبالغ فيه أيضاً ولعل مقولة المفضل الضبي التي يتحدث فيها عن إفساد حماد الراوية للشعر بحيث لا يصلح أبدا قد أثرت في تفكير بلاشير وتصوره، مما دفعه إلى تأكيد اختلاط الصحيح بالمنحول لدرجة يتعذر التمييز بينهما، والحق ان لدينا قصائد صحيحة وصلت إلينا من رواة ثقاة يمكننا الاطمئنان إلى صحتها إجمالا، مما يعني أنَّ حكم بلاشير يشتمل على مبالغة كبيرة .

ويخلص بلاشير من هذا كله إلى أنَّ قسماً ضئيلاً من الشعر الجاهلي وصل إلينا وأنَّ كل ما أوجدته الظروف الخاصة فهو من انتخاب الرواة وجامعي المختارات الشعرية أو العلماء.
إنَّ هذه النصوص تستحضر صورة جزئية جامدة عما كانت عليه الحياة الأدبية في ذلك العصر.

الاختلاف اللهجي في الشـعر الجاهلي:

ولعل أخطر ما تعرض إليه بلاشير في قضية الانتحال تأكيده على الاختلاف اللهجي، فهـو يرى أنَّ لغة الشـعر الجاهلي قـد أصابتها تحريفات متعددة قبيل تدخل الكتابة، ففي النصوص المذكورة استعمل الشعراء، أياً كان عصرهم أو قبائلهم لغة موحدة، منـزهة بصورة عامة على كل أثر لهجي، خاضعة لقواعد تركيبية هي إجمالا قواعد نحاة البصرة، ولاشك في أنَّ القصائد الجاهلية قد جردت بتأثير الرواة الكبار من كثير من الظواهر اللهجية.

انتحال الشعر الجاهلي:

ولعل أخطر من تعرض لقضية انتحال الشعر الجاهلي هو المستشرق صموئيل مرجليوث الذي نفى أنْ يكون الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا معبراً عن العصر الجاهلي وإنما هو ـ في رأيه ـ نتاج مرحلة تالية لظهور الإسلام.

وعلى الرغم من تأكيد مرجليوث أنَّ الشعر موجود في العصر الجاهلي، بدليل ذكره في القرآن الكريم، فانه يثير شكاً في كيفية انتقاله إلينا من هذه المرحلة، وهو يفترض أنَّ هناك طريقتين لا ثالث لهما: الكتابة أو الرواية الشفوية، أما الكتابة فلم تكن وسيلة ممكنة في نقل الشعر، وهذا ما يؤكده علماء العربية القدامى والمعاصرون.

نقل القصائد بالرواية الشفوية:

وأما الرواية الشفوية التي يؤكدها العديد من القدامى والمعاصرين فإن مرجليوث يثير حولها شكوكاً، ويبني شكه على أساس عدة أسباب منها إنَّ نقل القصائد بالرواية الشفوية يقتضي وجود حفظة ينقلونها، وليس لدينا ما يدعونا إلى الظن بأن حرفة مثل هذه قد وجدت أو انها بقيت خلال العقود الأولى من الإسلام، كما أنَّ الإسلام كان يحث على نسيان القصائد التي كانت تعبر عن انتصارات القبائل بعضها على بعض، لأنها تثير النفوس وتهيج الدماء.

المماثلة بين لغتي القـرآن الكـريم والشعـر الجاهلي:

ويؤسس مرجليوث شكه من ناحية أخرى على أساس المماثلة بين لغتي القـرآن الكـريم والشعـر الجاهلي، متخذاً من هذا التماثل دليلاً على أنَّ ما وصلنا من الشعر الجاهلي إنما هو وليد مرحلة لاحقة لظهور الإسلام، يضاف إلى هذا أنَّ مرجليوث يلمح ملاحظات تتجلى في طبيعة القصص الديني والألفاظ الإسلامية التي تشيع في الشعر الجاهلي فضلاً عن خلوه من الآثار الدينية الوثنية.

أما عن الشك في الرواية الشفوية فقد سبق لنا تناولها، وأكدنا أنَّ الشعر الجاهلي والصحيح منه بخاصة، قد وصلنا بها وقد أحاط بهذه الطريقة رواة ثقاة وعلماء محققون ومما لاشك فيه أنَّ هناك نصوصاً شعرية وفيرة من الشعـر الجاهلي تعبـر عن المرحلة الجاهلية، وتدل على أصحابها، ومعبرة عن الواقع الاجتماعي في إطار سياقه التاريخي.

أما عن تماثل لغتي القرآن الكريم والشعر الجاهلي أمر يدحضه أنَّ اللغة العربية الموحدة أخذت بالاستقرار والتوحد بوقت غير قصير من ظهور الإسلام، وان الشعراء أخذوا ينظمون قصائدهم بها.

التعبير عن حياة وثنية وعابثة:

كما أنَّ الشعر الجاهلي لا يخلو من مفردات وتراكيب تعبر عن خصائص لهجية معينة، وهذا يعني أنَّ هناك توحداً ليس على مستوى اللغة وحدها، ولكن هناك مزاجاً حضارياً عاماً قد أخذ منذ أواخر العصر الجاهلي ينتظم هذه البيئة الجاهلية، يقودها إلى التطلع إلى حياة جديدة، وهو مزاج أو قل نقلة حضارية قد قادت إليها ظروف عديدة: سياسية واقتصادية واجتماعية كانت في الحقيقة إرهـاصاً بهذا التغـير الضخم الذي أحـدثه ظهور الإسلام وتمهيداً له.

وكان الشعر الجاهلي معبراً عن حياة وثنية وعابثة في العديد من نصوصه، فضلا عن تسرب الكثير من الآثار الأسطورية التي هي امتداد لتصورات موغلة في تاريخ الجزيرة العربية.