ما هو مفهوم الجاهلية؟.. مظاهر العنف والوحشية والتعسف والزهو والتبجح التي حد الإسلام منها أو قضى عليها بغية إيجاد فضائل أكثر اتزانا وإنسانية



تعريف الجاهلية:

تُثير كلمة «الجاهلية» قضايا عديدة، فهي في الحقيقة مصطلح مستحدث أطلقه الإسلام على المرحلة السابقة للبعثة النبوية، فهو من هذه الناحية تكتنفه الدلالة الدينية، مما دفع بعض الباحثين إلى القول: إنَّ مصطلح الجاهلية (مصطلح ديني له غاية محددة حين ظهر الإسلام، هي حث العرب على التخلص من كل نقيصة كانت لهم في عهد ما قبل الإسلام، بل تنفيرهم من ذلك وترغيبهم فيما جاء به الإسلام من خلق سوي أراده الله تعالى لهم).

مرحلة ما قبل الإسلام:

ويعمد باحث آخر إلى النأي عن استخدام مصطلح (الجاهلية) لأنه في تصوره مصطلح مضلل، ويؤثر استبداله بمصطلح آخر هو (مرحلة ما قبل الإسلام) لأنه يرى أنَّ مصطلح الجاهلية قد ارتبط بفكرة سائدة وغير حقيقية ترى في هذه الفترة من حياة العرب إظلاماً تاماً في كل نواحي الحياة، فهي من الجهل والجهالة العمياء، وكثيراً ما يؤكد هذا المعنى في قولهم » جاهلية جهلاء وضلالة عمياء على حين انه كان للعرب حضارتهم المتطورة قبل الإسلام بزمن طويل، فالتسمية بالجاهلية تسمية دينية قصد منها التنفير من هذا العهد وآثاره، وليست تسمية علمية.

تعدد دلالات الجاهلية:

وتشتمل كلمة الجاهلية على دلالات متعددة، فهي مرة تدل على الجهل الذي هو ضد العلم، ومن الجهل بالقراءة والكتابة، وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر.
والجهل كما يرد في لسان العرب نقيض العلم...الجهالة أنَّ تفعل فعلاً بغير العلم... والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه.

غير أنَّ هذه الكلمة تتضمن دلالات أخرى، فهي قد تدل على نقيض العلم أو قد تدل على الجهل الذي هو ضد الخبرة، يقال هو يجهل ذلك أي لا يعرفه، وقد أكـد ابن منظور أنَّ الجاهلية زمن الفترة ولا إسلام... وهي الحال التي كان عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسـوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك.

الجاهلية في نظر المستشرقين:

وقد توقف المستشرقون عند كلمة الجاهلية، فالمستشرق جولد تسيهر يرى أنَّ الشواهد التي وردت في القرآن الكريم لكلمتي جاهل وجاهلية قلما تسمح للمرء بأنْ يحدد معنى الكلمتين تحديداً دقيقاً، على أنَّ الجاهل في شعور المسلمين والمفسرين هو ضد العالم، والجاهلية هي ضد الإسلام، وإذ لم يؤخذ بمعنى التسليم لله بل بمعنى معرفة الله، وهو يرى أنَّ كلمة الجاهلية تعني عصر الجهل خلافاً للعصر اللاحق وهو عصر العلم.

الهمجية وانتشار الضلالة:

ويميل رجيس بلاشير إلى أنَّ كلمة الجاهلية تضم جميع مظاهر العنف والوحشية والتعسف والزهو والتبجح التي حدَّ الإسلام منها، أو قضى عليها بغية إيجاد فضائل أكثر اتزانا وإنسانية، ويرى المستشرق هيوارث أن ليس الغرض من الجاهلية النسبة إلى الجهالة المناقضة للعلم والمعرفة، وإنما الغرض منها السفاهة التي كانت مؤدية إلى الهمجية وانتشار الضلالة، وعبادة الأوثان والإسراف في القتل واستباحة الزنا والخمر وانتهاء هذا كله بتأريث العداوة وقيام الحروب وتفرق القبائل.

السفه والغضب والنـزق:

وقد آثر عدد من الدارسين العرب معنى مماثلاً لهذا، إذ يرى جواد علي أنَّ الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعـدم الانقياد لحكم وشـريعة وإرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام، ويرى شوقي ضيف أنَّ كلمة الجاهلية التي أطلقت على هذا العصر ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنـزق، فهي تقابل كلمة الإسلام التي تدل على الخضوع والطاعة لله جل وعز، وما ينطوي فيها من سلوك خلقي كريم.

أهل الشرك:

ويؤكد هذا المعنى عدد من المفسرين من قدامى ومحدثين، فالطبري في أثناء تفسيره لكلمة الجاهلية يرى أنها تدل على أهل الشرك يقول: وأما قـوله (ظن الجاهلية) فإنه يعني أهل الشرك، ويـؤكـد هذا محمد الطاهر بن عاشـور، فالجاهلية هي المدة التي كان عليها العرب قبل الإسلام... والجاهلية نسبة إلى الجاهل، لأنَّ الناس الـذين عاشـوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع ويؤكد في موطن آخر المعنى ذاته يقول: إنَّ الجاهلية نسبة إلى الجاهل الذي لا يعلم الدين والتوحيد، فإنَّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم، قال ابن الرومي:
بِجَهلٍ كَجهلِ السَّيفِ والسَّيفُ مُنْتضٍ -- وحلم كَحلمِ السَّيفِ والسَّيفُ مُغمدُ

وأحسب أنَّ لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل وترغيـبا في العلم، ولـذلك يذكره القرآن في مقامات الذم.

إنَّ هذه الدلالات المتعددة لكلمة الجاهلية قد أربكت بعض الدارسين ودفعتهم إلى المقـارنة بين هـذه الدلالات وحال العرب قبل الإسلام، وأخذوا يترددون بين استخدام هذا المصطلح الذي يبدو عندهم مضللاً، أو استخدام مصطلح آخر أقل لمعاناً وبريقاً وهو مصطلح مرحلة ما قبل الإسلام.

إنَّ مصطلح مرحلة ما قبل الإسلام الذي آثره بعض الباحثين، على الرغم من دعاوى التبرير التي يعرضـونها فإنه لا يُعنـى إلا بتحديد البعد الزماني لمرحلتين إحداهما سـابقة للإسلام وأخرى لاحقة للبعثة النبوية.

ويعضد أصحاب هذا الرأي موقفهم في أنَّ مصطلح الجاهلية مصطلح مضلل، ويصل وصفه إلى درجة المبالغة في أنه يرى في هـذه الفترة من حـياة العرب إظلاماً تـاماً في كل نواحي الحياة، ويتساءل باحث آخر في قوله: إذا صح أن نطلق على هذا العصر لفظ الجاهلية من وجهة نظر دينية فهل يصح أن نعممه من وجهة نظر علمية، ويـؤكد أنه لا يستطيع أن ينفي عن هذا العصر صفات السفه والحمق والأنفة والاستجابـة السـريعة للغضب وعـدم الانقياد والتعصب القبلي والتسلط والتجبر والكبر عن مجتمع هذا العصر، لأنَّ أدبه قد جاء معبراً عنها ومؤكداً لها.

طور حضاري مختلف:

ولكنه يرى أنَّ مصطلح الجاهلية قد لا يصلح من وجهة نظر علمية أنْ نطلقه على ما صدر عن هذا العصر من معارف وآداب، ومع هذا فإنَّ الباحث استخدم مصطلح الجاهلية في ثنايا كتابه على الرغم من عدم توافقه من وجهة علمية، وذلك لإيمانه بعدم » جدوى تغييره بعـد أنْ أصبـح شائعاً على ألسنة المشتغلين بالأدب وفي بطون كتب السلف والخلف.

إنَّ استخدام مصطلح مرحلة ما قبل الإسلام إنما يؤكد الفاصل الزماني بين مرحلتين، ولا يتضمن دلالة أخرى، في حين يتميز عليه مصطلح الجاهلية، فضلاً عن شيوعه واستقراره وثباته وبريقه في أنه يشتمل على التحـديد الـزماني الذي يتضمنه مصطلح مرحلة ما قبل الإسلام من ناحية، ويؤكد أنَّ المرحلة السابقة للإسلام (الجاهلية) تمثل طوراً حضارياً متغايراً عن الطور الحضاري الإسلامي من ناحية أخرى.

ولا يعني هذا أنَّ الطور الحضاري السابق للإسلام لا علم فيه ولا حضارة، وهو ليس إظلاماً تاماً، وإنما هو طور حضاري له خصائصه وسماته وميزاته، وهو يختلف عن طور حضاري آخر أكثر منه رقياً وتقدماً، ولهذا أؤثر استخدام مصطلح الجاهلية على مصطلح مرحلة ما قبل الإسلام للأسباب التي ذكرتها.