بلاغة وخصائص الكناية.. التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذانَ سماعه

الكنايةُ مَظهرٌ من مظاهر البلاغةِ، وغايةٌ لا يصل إليها إلا من لطف طبعُه، وصفتْ قريحتُه، والسرُّ في بلاغتها أنها في صور كثيرةٍ  تعطيك الحقيقةَ، مصحوبةً بدليلها، والقضيةً وفي طيِّها برْهانها، كقول البحتري في المديح:
يغضُّونَ فضلَ اللحظِ من حيثُ ما بدا -- لهمْ عن مهيبٍ في الصدورِ محببُ

 فإنه كنَّى عن إكبار الناس للممدوحِ، وهيبتِهم إياه، بغضِّ الأبصارِ الذي هو في الحقيقة برهانٌ على الهيبة والإجلالِ، وتظهرُ هذه الخاصةُ جليةً في الكناياتِ عن الصفةِ والنسبةِ.

ومن أسباب بلاغةِ الكنايات أنها تضعُ لكَ المعاني في صورة المحسوساتِ، ولا شكَّ أن َهذه خاصةُ الفنون، فإنَّ المصورَ إذا رسم لك صورةً للأملِ أو لليأسِ، بهرَكَ وجعلكَ ترى ما كنتَ تعجزُ عن التعبير عنه واضحاً ملموساً، فمثلُ كثيرِ الرمادِ في الكناية عن الكرمِ ،ورسول ُالشرِّ، في الكنايةِ عن المزاحِ.

وقول البحتريَِّ[1]: 
أو ما رأيتَ المجْدَ ألقى رحلَهُ -- في آل طلحةَ ثمَّ لم ْ يتحوَّلِ
وذلك في الكنايةِ عن نسبةِ الشرف إلى آل طلحةَ.
كلُّ أولئك  يبرز لك المعاني في صورة ٍ تشاهدُ، وترتاحُ نفسُك إليها.

ومن خواصِّ الكنايةِ: أنها تمكنُك منْ أنْ تَشْفيَ غلَّتَك منْ خصمِك منْ غيرِ أنْ تجعل َله إليك سبيلاً، ودون أنْ تخدشَ وجهَ الأدب، وهذا النوعُ  يسمَّى بالتعريضِ، ومثالُه قولُ المتنبي في قصيدة، يمدحُ بها كافوراً ويعرضُ بسيفِ الدولة [2]:
فِراقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيرُ مُذَمَّمِ -- وَأَمٌّ وَمَنْ يَمّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
وَمَا مَنزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِلٍ -- إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ
سَجِيّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُليحَةً -- منَ الضّيمِ مَرْمِيّاً بها كلّ مَخْرِمِ
رَحَلْتُ فكَمْ باكٍ بأجْفانِ شَادِنٍ -- عَلَيّ وَكَمْ بَاكٍ بأجْفانِ ضَيْغَمِ
وَمَا رَبّةُ القُرْطِ المَليحِ مَكانُهُ -- بأجزَعَ مِنْ رَبّ الحُسَامِ المُصَمِّمِ
فَلَوْ كانَ ما بي مِنْ حَبيبٍ مُقَنَّعٍ -- عَذَرْتُ وَلكنْ من حَبيبٍ مُعَمَّمِ
رَمَى وَاتّقى رَميي وَمن دونِ ما اتّقى -- هوًى كاسرٌ كفّي وقوْسي وَأسهُمي
إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ -- وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ

فإنه كنَّى عن سيف الدولة، أولا: بالحبيبِ المعمم، ثم وصفه بالغدرِ الذي يدعي أنه من شيمةِ النساءِ، ثم لامه على مبادهته بالعدوانِ، ثم رماه بالجبنِ لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتارِ خلف غيره، على أنَّ المتنبي لا يجازيه على الشرِّ بمثله، لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوًى قديماً، يكسرُ كفه وقوسه، وأسهمه، إذا حاول النضالّ، ثم وصفه بأنه سيءُ الظنِّ بأصدقائهِ لأنه سيءُ الفعل، كثيرُ الأوهام والظنون، حتى ليظنَّ أنَّ الناس جميعاً مثلَه في سوءِ الفعل، وضعفِ الوفاء، فانظر كيف نالَ المتنبي من  هذا، ومن أوضح مميزات الكنايةِ التعبيرُ عن القبيح بما تسيغُ الآذانَ سماعُه، وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن الكريم، وكلام العربِ فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكنايةِ، وكانوا لشدة نخوتهِِم يكنونَ عن المرأة بالبيضةِ والشاةِ.

ومن بدائع الكنايات قولُ بعض العرب [3]:
أَلاَ يا نَخْلةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ -- عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللّهِ السّلامُ
  فإنه كنَّى بالنخلةِ، عن المرأة التي يحبُّها.

[1] - شرح ديوان الحماسة - (ج 1 / ص 468)  وشرح ديوان الحماسة - (ج 2 / ص 49)  ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 179).

[2] - الواضح في مشكلات شعر المتنبي - (ج 1 / ص 3) وشرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 322) وخزانة الأدب - (ج 1 / ص 275) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 8 / ص 115)  وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 117) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 132).

[3] - شرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 113) والحلل في شرح أبيات الجمل - (ج 1 / ص 32) وتزيين الأسواق في أخبار العشاق - (ج 1 / ص 26) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 15) وخزانة الأدب - (ج 1 / ص 139) وتاج العروس - (ج 1 / ص 5355) و لسان العرب - (ج 8 / ص 188).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال