عوارض الإسناد وأحواله.. ضم كلمة إلى أخرى ضما يفيد ثبوت مفهوم إحداهما لمفهوم الأخرى. حقيقة عقلية ومجاز عقلي



ما هو الإسناد؟

الإسناد ضم كلمة إلى أخرى ضما يفيد ثبوت مفهوم إحداهما لمفهوم الأخرى نحو حاتم كريم وأكرم حاتماً، أو انتفاءه عنه نحو ما خالد جباناً ولا تقاتل خالداً سواء كان بالتعيين أم بالترديد([1]).
وحكم ما يجري مجرى الكلمة نحو الضمير المستتر والجملة الواقعة خبراً حكم الكلمة([2]) فالكلمة الدالة على المحكوم عليه ما تسمى مسنداً إليه والكلمة الدالة على المحكوم به تسمى مسنداً والحكم الحاصل من ذلك يسمى الإسناد ولكل من المسند إليه والمسند والإسناد عوارض بلاغية تختص به.

عوارض الإسناد وأحواله:

شاع أن الإسناد من خصائص الخبر فلذلك كثر أن يصفوه بالخبري بناء على أن الإنشاء كالأمر والنهي والاستفهام لا إسناد فيه والتحقيق أن الإسناد يثبت للخبر والإنشاء فإن في الجمل الإنشائية مسنداً ومسنداً إليه فالفعل في قولك أكرم صديقك مسند والضمير المستتر فيه مسند إليه.

إفادة المخاطب الحكم:

واعلم أن القصد الأول للمخبر من خبره هو إفادته المخاطب الحكم([3]) وقصد المتكلم بالجملة الإنشائية إيجاد مدلول الإنشاء ففي الأمر يقصد إيجاد المأمور به ويسمى الامتثال وفي النهي يقصد عدم إيجاد الفعل ويسمى الانكفاف وفي الاستفهام يقصد الجواب بالإفهام وهكذا.

وقد يخاطب بالخبر من يعلم مدلوله ويخاطب بالإنشاء من حصل منه الفعل المطلوب فيُعلم أن المتكلم قصد تنزيل الموجود منزلة المعدوم لنكتة قد تتعلق بالمخاطب أما لعدم جري العالم على موجب علمه كقول عبد بني الحسحاس: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً) فإن المقصود منه تذكير من لم يزعه الشيب والإسلام إذ قد علم كل الناس إنهما وازعان.

وأما لأن حاله كحال ضده كقولك للتلميذ بين يديك إذا لم يتقن الفهم يا فتى فإنك تطلب إقباله وهو حاضر لأنه كالغائب.
وأما لقصد الزيادة من الفعل نحو (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) فطلب منهم الإيمان بعد أن وصفهم به لقصد الزيادة والتملي منه.

وأما لاختلال الفعل حتى كان غير مجد لفاعله مثل قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يصلي ينقر نقر الديك (صل فإنك لم تصل) وهذا كثير في كلامهم، وقد تتعلق النكتة بالمتكلم ليريك أنه عالم بالخبر كقولك لصاحبك سهرت البارحة بالنادي وقول عنترة:
إن كنت أزمعت الفراق فإنما -- زُمَّت ركابكم بليل مظلم

وعلامة هذا أن يكون الكلام دالاً على أن المخاطب لا يجهل الخبر فإنك إذا حدثته عن أحواله لا تقصد أن تعلمه بما هو معلوم لديه.

مراتب  قوة إثبات ونفي الكلام:

وللكلام في قوة الإثبات والنفي مراتب وضروب بحسب قد الحاجة في إقناع المخاطب، فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم ولا تردد له فيه فلا حاجة إلى تقوية الكلام، وإن كان المخاطب متردداً في الحكم فالحسن أن يقوى له الكلام بمؤكد لئلا يصير تردده إنكاراً كما قال الله تعالى: (فقالوا إنا إليكم مرسلون) لأنهم كذبوا الرسولين الأولين فلما عززا بثالث كان القوم بحيث يترددون في صدقه.

 وإن المخاطب منكرا وجب توكيد الخبر على قدر الإنكار نحو (إني لكم نذير مبين) ونحو (إنا إليكم مرسلون) ونحو (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) ويسمى الضرب الأول ابتدائيا. والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.

وأدوات التوكيد إن وأن ولام الابتداء، ولام القسم، والقسم، والحروف الزائدة، وحروف التنبيه، وضمير الفصل ولن النافية هذه في الأسماء وقد وإما الشرطية ونون التوكيد في الأفعال وقد ينزل المخاطب المستحق لأحد هذه الأضرب منزلة صاحب غيره منها لنكتة فيسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر قال طرفة:
لعمرك إن الموت ما اخطأ الفتى -- لكالطول المرخى وثنياه باليد

فأتى بثلاث مؤكدات القسم وأن ولام الابتداء لقصد الرد على من كان حاله في لومه إياه على الكرم وتناول اللذات حال من ينكر إدراك الموت إياه مع أن مجيء الموت ولو بعد طول العمر أمر معلوم لكل أحد.

التوكيد لمجرد الاهتمام بالخبر:

وقد يجيء التوكيد بإن لمجرد الاهتمام بالخبر دون إنكار كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا) ومن ذلك أن يكون في الخبر غرابة كالمثل (إن البغاث بأرضنا يستنسر) أو تهويل نحو (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) لأن شأن هذين النوعين أن ينكرهما السامع فيؤكد له من قبل حصول الإنكار احتياطاً تنزيلاً له منزلة المنكر.

الحقيقة العقلية والمجاز العقلي:

والإسناد نوعان حقيقة عقلية ومجاز عقلي، فالحقيقة العقلية إسناد الشيء إلى شيء هو من الأمور الثابتة له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً الإثبات كقول الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير + كر الغداة ومر العشي

لأن الشاعر جاهلي وظاهر كلامه يشعر بأنه يعتقد أن مرور الزمان هو سبب الشيب إذا لم ينصب قرينه على أنه يعلم أن ذلك ليس سبباً للشيب، والنفي كقوله تعالى: (وما كانوا مهتدين) والمجاز العقلي إسناد الشيء إلى غير ما هو له في متعارف الناس إثباتاً أو نفياً لملابسة بين المسند والمسند إليه، ومعنى الملابسة المناسبة والعلاقة بينهما.

إسناد الفعل إلى المتسبب فيه:

فأشهر ذلك أن يسند الفعل إلى المتسبب فيه كقوله أم زَرْع (أناس من حلي أذني وملا من شحم عضدي) فإن وزجها لما اشترى لها النواس لتلبسه في أذنيها فهو قد أناس أذنيها وهذا قريب من الحقيقة ولما أفاض عليها الخير والراحة حتى سمنت فقد تسبب في ملإٍ عضديها بالشحم، وهذا مجاز عقلي لملابسة السببية.

وهناك ملابسات كثيرة نحو (عيشة راضية) مع أن الراضي صاحب العيشة، ونحو نهر جار مع أن الجاري ماؤه وانبت الربيع العشب لأن الربيع زمن الإنبات، يوماً يجعل الولدان شيباً، (يوماً عبوساً قمطريراً).

والنفي كقوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم) فإن نفي الربح لم يتعارف إسناده للتجارة بل إنما يثبت الربح وينفي عن التاجر، وهو محتاج إلى قرينه لفظية أو معنوية ليفارق كلام البليغ كلام الغالط والهاذي والغبي.

([1]) قصدت بهذه الزيادة إدخال نحو قام زيد أو عمرو وإدخال الاستفهام.
([2]) اعلم أنني نقحت تعريفهم للإسناد فأتيت بتعريف ينطبق على الخبر وعلى الإنشاد ولذلك لم أذكر في التعريف لفظ الحكم بل قلت يفيد ثبوت مفهوم الخ لأن في الإنشاء ثبوتاً وانتفاء لكن بلا حكم.
([3]) إذ لا يقصد المتكلم من كلامه مجرد النطق به كالسعال والأنين وأما قول الحطيئة:
ابت شفتاي اليوم إلا تكلما -- بسوء فما أدري لمن أنا قائله
فذلك ضرب من التمليح إذ جعل نفسه لا يستطيع البقاء بلا هجاء.